الجمعة، ١٨ ديسمبر ٢٠٠٩

يسوع يطهر الهيكل


7

دخل يسوع غاضباً إلى رواق الأمم فرأى باعة الذبائح من البقر والأغنام والحمام و اليمام والصيارفة قد افترشوا الرواق تماماً. تعالت أصوات الباعة والشارين في مساومات حول سعر تغيير العملات المختلفة التي جاء الحجاج بها من كافة أرجاء الإمبراطورية الرومانية و أسعار الذبائح التي بالطبع تباع لهؤلاء الغرباء بأضعاف اثمانها الحقيقية. رائحة روث البهائم تملأ المكان ورخام أرضية الرواق الأبيض الشاهق لا يكاد يرى من طين الأرجل الأسود المختلط بالروث الأخضر والمرصع بأعواد البرسيم ودقائق التبن كما قد ترصع الفضاء بأصوات حادّة وأقسام غليظة من التجار أن هذا هو الثمن الحقيقي وأن مكسبهم فيه لا يتعدى القروش القليلة، وبين الحين والآخر تتخلل الزحام الخانق وحركات عصبية عنيفة عندما يحاول أحد الزبائن أخذ الذبيحة ومحاولة الخروج بها من الرواق فيقوم التاجر الذي لم يرض بالسعر بسحبها منه بعصبية فترتطم بحاجة مسنة فتقع على الأرض صارخة من الألم وتتلوث ثياب حجّها بروث البهائم فيضاف إلى بكاءها من الألم بكاء بسبب النجاسة التي علقت بثوبها الطاهر.
عندما شاهد يسوع هذه ما جرى لهذه السيدة تمالك غضبه وأسرع إليها وساعدها أن تقوم، ثم بدأ يساعدها في تنظيف ملابسها بقدر المستطاع وبسرعة أخرجها للخارج لتنضم لقافلتها ثم عاد وقد عقد العزم أن يطهر الهيكل من هذه الفوضى. دخل يسوع للرواق بحزم وقوة وبدأ يسوق البهائم بالسوط الذي جدله حتى تخرج من الرواق ولم يفته أن يضرب بنفس الصوت موائد الصيارفة الذين انكبوا على الأرض ليجمعوا عملاتهم ويضعوها في أكياسهم ويهرعوا بها للخارج خوفاً من اللصوص المنتشرين في المكان.

ـ ارفعوا هذه من هنا. لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة. ألم تقرأوا أنه بيت الصلاة؟ ألم تقرأوا
أن هذا الرواق قد بني لجميع الأمم وليس لكم فقط؟ لقد جعلتموه مغارة للصوص، ومكانة
لإهانة الإنسان والحيوان معاً..... اخرجوا من هنا!...... هيا أنتم.. نظفوا المكان..
وبسرعة خرج للساحة وأحضر إناءّ وملأه من ماء المرحضة وأسرع به للرواق وألقاه وبدأ في تنظيف الأرضية من الطين والروث، فهب لمساعدته بعض اللاويين في الهيكل. في ذلك الوقت تدافع الصيارفة يحاولون لملمة عملاتهم التي تناثرت على الأرض عندما قلب يسوع موائدهم وبدأوا يتشاجرون ويضربون الصبية الصغار الذين انتهزوا الفرصة وراحوا يقتنصون لأنفسهم بعض العملات. بينما هرع واحد من الصيارفة إلى داخل القُدس ليدعوا أحد الكهنة لينقذهم من هذا الكاتب المتحمس.

- مولانا.. انجدنا لقد هجم علينا أحد شباب الكتبة. يبدو أنه من الجليل وطرد الباعة من رواق الأمم و هو يصيح متهماً إيانا أننا جعلنا من بيت الله بيت تجارة. لا تنسى يا مولانا أنك أعطيتنا تصريحاً مختوماً بختم المملكة. أنت تعلم أن وجودنا في هذا الرواق شرعيّ.

- نعم أعلم. سوف آت حالاً لا تقلق.

أسرع الكاهن الخطى ململماً ثوبه الأسود الفضفاض إلى رواق الأمم وعلامات الضيق والقلق بادية على وجهه، وعندما وصل إلى الرواق كان يسوع قد هدأ قليلاً وبدأ مع مجموعة الأفارقة وبعض اللاويين ينظفون الرواق من روث البهائم التي بدأ أصحابها يسحبونها إلى خارج الرواق وشيئاً فشيئاً بدأ الأفارقة يمارسون الصلاة في الرواق ولكن باضطراب وخوف.
اقترب الكاهن من يسوع وهو يحاول أن يغطي خوفه الداخلي بالمزيد من العنف والصياح فجاء صوت عالياً أكثر من اللازم بعد أن هدأت القاعة نسبياً
ـ من أنت؟ وبأي حق تفعل هذا؟
ـ أنا يسوع. كاتب من ناصرة الجليل
ـ كيف ترفع صوتك وتضرب بسياط هؤلاء التجار البسطاء الفقراء؟
ـ أنا لم أضرب التجار، أنا طلبت منهم أن يخرجوا ولما لم يستجيبوا قلبت الموائد ليعرفوا أنني جاد فيما أطلبه، وها قد خرجوا ولم يخسر أحد شيئاً. هم في الدار الخارجية يبيعون ويشترون.
ـ ألا تعرف أن مافعلته اعتداء وتدنيس للهيكل؟
ـ إن ما تفعلونه هو التدنيس بعينه. بيت أبي بيت صلاة وأنتم جعلتموه مغارة لصوص
ـ بيت أبيك؟
ـ نعم بيت أبي. أوليس الله أبونا؟!
ـ نعم... نعم هو كذلك.. لكن كيف تقول عنه أنه أباك أنت بالذات؟ ثم بأي سلطان فعلت هذا
ـ بسلطان الله
ـ من يتكلم بسلطان الله يصنع المعجزات في العلن. كل نبي جاء بدليل على نبوته. فما هو دليلك؟ ما هي آياتك؟ هل تنبأت بشيء وحدث؟ هل شفيت أحد من المرض؟ إإتنا بآية فنؤمن بك.
كان الكاهن يعرف أنه يسوع الناصري ويعرف ذياع صيته والآيات والعجائب التي بدأ يصنعها في كل قرى الجليل وكذا سمع بشهادة المعمدان عنه إلا أنه تظاهر بعدم معرفته بكل هذا.
ـ آيتي هي هذا الهيكل، وأشار يسوع إلى جسده، انقضوه وأنا في ثلاث أيام أقيمه.
لم يفهم الكاهن كلام يسوع. حتى تلاميذ يسوع لم يفهموا وظنوه يتكلم عن الهيكل، فصاح الكاهن وهو يحاول أن يداري خوفه من يسوع. ـ في ستة وأربعين سنة بُنيَ هذا الهيكل وأنت تقول أنك سوف تبنيه في ثلاث أيام. لا بد أنك تهذي
نظر إليه يسوع ولم يتكلم. كما لم يستطع الكاهن أن يضيف كلمة فمضى.
عندما رأى كثير من الحاضرين ما حدث أتوا إليه قائلين أنهم يؤمنون به ويريدون أن يتبعوه وبدأوا يسألونه إن كان هو المسيح ومتى سوف يبدأ ثورته على الرومان حتى أن بعضهم جاءوه بسيوف وعرضوا عليه أن يبدأوا في تشكيل جيش وإعلان الحرب على الكفار. كان يسوع يعلم ما في قلوبهم فربت على أكتافهم وقال:
ـ ملكوت الله لا يأتي بالسيوف...... ملكوت الله لا يأتي بالسيوف.. وانصرف....
وكان واقف بعيداً رجل فريسي مسنّ ذو لحية طويلة بيضاء يتأمل ما يجري دون أن يشترك في الحوار ولكن كانت عيناه لا تفارقان يسوع وتتابعانه في كل ما يفعل أو يقول، وعندما هم يسوع بالانصراف مر به وتقابلت عيناهما ولم يقل أحد للآخر كلمة...

لن يستطيع هذا الفريسي أن ينام هذه الليلة دون أن يقابل يسوع. سوف تمنعه الأفكار من الراحة حتى يعرف من هو هذا الرجل؟ في الحلقة القادمة من مملكة الله سوف نشاهد حواراً هاماً بين يسوع وهذا الفريسي العجوز.
 
google-site-verification: google582808c9311acaa3.html