الجمعة، ١٨ ديسمبر ٢٠٠٩

يسوع يطهر الهيكل


7

دخل يسوع غاضباً إلى رواق الأمم فرأى باعة الذبائح من البقر والأغنام والحمام و اليمام والصيارفة قد افترشوا الرواق تماماً. تعالت أصوات الباعة والشارين في مساومات حول سعر تغيير العملات المختلفة التي جاء الحجاج بها من كافة أرجاء الإمبراطورية الرومانية و أسعار الذبائح التي بالطبع تباع لهؤلاء الغرباء بأضعاف اثمانها الحقيقية. رائحة روث البهائم تملأ المكان ورخام أرضية الرواق الأبيض الشاهق لا يكاد يرى من طين الأرجل الأسود المختلط بالروث الأخضر والمرصع بأعواد البرسيم ودقائق التبن كما قد ترصع الفضاء بأصوات حادّة وأقسام غليظة من التجار أن هذا هو الثمن الحقيقي وأن مكسبهم فيه لا يتعدى القروش القليلة، وبين الحين والآخر تتخلل الزحام الخانق وحركات عصبية عنيفة عندما يحاول أحد الزبائن أخذ الذبيحة ومحاولة الخروج بها من الرواق فيقوم التاجر الذي لم يرض بالسعر بسحبها منه بعصبية فترتطم بحاجة مسنة فتقع على الأرض صارخة من الألم وتتلوث ثياب حجّها بروث البهائم فيضاف إلى بكاءها من الألم بكاء بسبب النجاسة التي علقت بثوبها الطاهر.
عندما شاهد يسوع هذه ما جرى لهذه السيدة تمالك غضبه وأسرع إليها وساعدها أن تقوم، ثم بدأ يساعدها في تنظيف ملابسها بقدر المستطاع وبسرعة أخرجها للخارج لتنضم لقافلتها ثم عاد وقد عقد العزم أن يطهر الهيكل من هذه الفوضى. دخل يسوع للرواق بحزم وقوة وبدأ يسوق البهائم بالسوط الذي جدله حتى تخرج من الرواق ولم يفته أن يضرب بنفس الصوت موائد الصيارفة الذين انكبوا على الأرض ليجمعوا عملاتهم ويضعوها في أكياسهم ويهرعوا بها للخارج خوفاً من اللصوص المنتشرين في المكان.

ـ ارفعوا هذه من هنا. لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة. ألم تقرأوا أنه بيت الصلاة؟ ألم تقرأوا
أن هذا الرواق قد بني لجميع الأمم وليس لكم فقط؟ لقد جعلتموه مغارة للصوص، ومكانة
لإهانة الإنسان والحيوان معاً..... اخرجوا من هنا!...... هيا أنتم.. نظفوا المكان..
وبسرعة خرج للساحة وأحضر إناءّ وملأه من ماء المرحضة وأسرع به للرواق وألقاه وبدأ في تنظيف الأرضية من الطين والروث، فهب لمساعدته بعض اللاويين في الهيكل. في ذلك الوقت تدافع الصيارفة يحاولون لملمة عملاتهم التي تناثرت على الأرض عندما قلب يسوع موائدهم وبدأوا يتشاجرون ويضربون الصبية الصغار الذين انتهزوا الفرصة وراحوا يقتنصون لأنفسهم بعض العملات. بينما هرع واحد من الصيارفة إلى داخل القُدس ليدعوا أحد الكهنة لينقذهم من هذا الكاتب المتحمس.

- مولانا.. انجدنا لقد هجم علينا أحد شباب الكتبة. يبدو أنه من الجليل وطرد الباعة من رواق الأمم و هو يصيح متهماً إيانا أننا جعلنا من بيت الله بيت تجارة. لا تنسى يا مولانا أنك أعطيتنا تصريحاً مختوماً بختم المملكة. أنت تعلم أن وجودنا في هذا الرواق شرعيّ.

- نعم أعلم. سوف آت حالاً لا تقلق.

أسرع الكاهن الخطى ململماً ثوبه الأسود الفضفاض إلى رواق الأمم وعلامات الضيق والقلق بادية على وجهه، وعندما وصل إلى الرواق كان يسوع قد هدأ قليلاً وبدأ مع مجموعة الأفارقة وبعض اللاويين ينظفون الرواق من روث البهائم التي بدأ أصحابها يسحبونها إلى خارج الرواق وشيئاً فشيئاً بدأ الأفارقة يمارسون الصلاة في الرواق ولكن باضطراب وخوف.
اقترب الكاهن من يسوع وهو يحاول أن يغطي خوفه الداخلي بالمزيد من العنف والصياح فجاء صوت عالياً أكثر من اللازم بعد أن هدأت القاعة نسبياً
ـ من أنت؟ وبأي حق تفعل هذا؟
ـ أنا يسوع. كاتب من ناصرة الجليل
ـ كيف ترفع صوتك وتضرب بسياط هؤلاء التجار البسطاء الفقراء؟
ـ أنا لم أضرب التجار، أنا طلبت منهم أن يخرجوا ولما لم يستجيبوا قلبت الموائد ليعرفوا أنني جاد فيما أطلبه، وها قد خرجوا ولم يخسر أحد شيئاً. هم في الدار الخارجية يبيعون ويشترون.
ـ ألا تعرف أن مافعلته اعتداء وتدنيس للهيكل؟
ـ إن ما تفعلونه هو التدنيس بعينه. بيت أبي بيت صلاة وأنتم جعلتموه مغارة لصوص
ـ بيت أبيك؟
ـ نعم بيت أبي. أوليس الله أبونا؟!
ـ نعم... نعم هو كذلك.. لكن كيف تقول عنه أنه أباك أنت بالذات؟ ثم بأي سلطان فعلت هذا
ـ بسلطان الله
ـ من يتكلم بسلطان الله يصنع المعجزات في العلن. كل نبي جاء بدليل على نبوته. فما هو دليلك؟ ما هي آياتك؟ هل تنبأت بشيء وحدث؟ هل شفيت أحد من المرض؟ إإتنا بآية فنؤمن بك.
كان الكاهن يعرف أنه يسوع الناصري ويعرف ذياع صيته والآيات والعجائب التي بدأ يصنعها في كل قرى الجليل وكذا سمع بشهادة المعمدان عنه إلا أنه تظاهر بعدم معرفته بكل هذا.
ـ آيتي هي هذا الهيكل، وأشار يسوع إلى جسده، انقضوه وأنا في ثلاث أيام أقيمه.
لم يفهم الكاهن كلام يسوع. حتى تلاميذ يسوع لم يفهموا وظنوه يتكلم عن الهيكل، فصاح الكاهن وهو يحاول أن يداري خوفه من يسوع. ـ في ستة وأربعين سنة بُنيَ هذا الهيكل وأنت تقول أنك سوف تبنيه في ثلاث أيام. لا بد أنك تهذي
نظر إليه يسوع ولم يتكلم. كما لم يستطع الكاهن أن يضيف كلمة فمضى.
عندما رأى كثير من الحاضرين ما حدث أتوا إليه قائلين أنهم يؤمنون به ويريدون أن يتبعوه وبدأوا يسألونه إن كان هو المسيح ومتى سوف يبدأ ثورته على الرومان حتى أن بعضهم جاءوه بسيوف وعرضوا عليه أن يبدأوا في تشكيل جيش وإعلان الحرب على الكفار. كان يسوع يعلم ما في قلوبهم فربت على أكتافهم وقال:
ـ ملكوت الله لا يأتي بالسيوف...... ملكوت الله لا يأتي بالسيوف.. وانصرف....
وكان واقف بعيداً رجل فريسي مسنّ ذو لحية طويلة بيضاء يتأمل ما يجري دون أن يشترك في الحوار ولكن كانت عيناه لا تفارقان يسوع وتتابعانه في كل ما يفعل أو يقول، وعندما هم يسوع بالانصراف مر به وتقابلت عيناهما ولم يقل أحد للآخر كلمة...

لن يستطيع هذا الفريسي أن ينام هذه الليلة دون أن يقابل يسوع. سوف تمنعه الأفكار من الراحة حتى يعرف من هو هذا الرجل؟ في الحلقة القادمة من مملكة الله سوف نشاهد حواراً هاماً بين يسوع وهذا الفريسي العجوز.

السبت، ٢٦ سبتمبر ٢٠٠٩

يسوع في الهيكل








6
نزل يسوع إلى أورشليم في زيارته الأولى فوجدها تغيرت كثيراً عما كانت عندما كان طفلاً. الشوارع أصبحت أكثر ازدحاماً. وجوه الناس أصبحت متربة مكفهرة ونادراً ما يرى ابتسامة على الوجوه. وعندما كانت تلتقي عيناه بعيني أحد المارة في الشوارع المزدحمة فيبتسم محيياً نادراً ما كان يرد تحيته أحد بل في بعض الأحيان كان يتلقى نظرات حادة مستهجنة من المارة إن كانت امرأة كانت تظنه يتحرش بها وإن كان رجلاً كان يظنه مثلياً يحاول الإيقاع به!
ما بك يا أورشليم؟
ماذا دهاك؟
لماذا يا مدينة الصلاة لم تعودي مدينة السلام؟ لماذا لم تعد صلاتك تعطيك سلاماً؟

كلما اقترب يسوع من الهيكل كلما زادت كثافة الزحام فموسم الحج على وشك أن يبدأ وتعداد أورشليم يتضاعف ربما أربعة أو خمسة مرات خلال هذه الأيام. وأهل أورشليم بالرغم من ضيقهم بهذا الزحام إلا أنه فرصتهم السنوية لمزيد من الرواج ودخول العملة الصعبة القادمة مع الحجيج من كل البلاد الخاضعة للإمبراطورية الرومانية.

أورشليم وكل اليهودية والجليل تختبر حراكاً سياسياً واجتماعياً وروحياً شديداً وبين التطرف في الإيمان وفي الشك. في التزمت وفي التحرر. بين الدين "الرسمي" والحركات الروحية المتعددة تتقلب وجوه الناس في السماء بحثاً عن الله.

الصدوقيون وهم طائفة الكهنة الذين لا يؤمنون إلا بأسفار التوراة الخمسة ويحفظون طقوس الذبائح في الهيكل هم الذين يمثلون الدين الرسمي ومعروف عنهم تواطئهم مع الحكومة واشتراكهم معها في نفس درجة الفساد وحب المال. منهم بالطبع نيافة الحبر الجليل رئيس الكهنة شيخ الهيكل الأكبر ومفتي الديار اليهودية. هؤلاء بالرغم من سيطرتهم على الحياة الدينية الطقسية للشعب من تقديم الذبائح المختلفة تكفيراً عن الخطايا ومراعاة الحج والأعياد وبالذات العيد الأكبر. عيد ضحية الفصح الذي يأتيه الحجيج من كل بقاع الأرض إلا أن الشعب لا يثق بهم ولا يستمع إلى فتاواهم وأحكامهم. كانت طائفة الصدوقيون تمثل الطائفة الليبرالية التي تقيم الطقوس والشرائع في العلن لكن إيمانها يميل إلى المادية لذلك كان هي الطائفة المفضلة لرجال الأعمال ورجال الدولة الذين يرون أنهم إذا أدوا الصلوات في أوقاتها وأدوّا عشور الزكاة وحجوا البيت العتيق فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. كان الصدوقيون يؤمنون أن النفس تموت مع الجسد ولا توجد قيامة أموات ولا خلود بعد الموت. لم يؤمنوا بوجود الملائكة أو الشياطين أو أي كائنات غير منظورة وإنما وكانوا يؤمنون أن الله يبارك الإنسان الصالح بركة مادّية هنا في الأرض وكفى. وبالتالي يكون الثراء الماديّ هو علامة رضا الله سبحانه وهذا بالطبع كان يوافق ميلهم للسلطة والشهرة وجمع المال.
هكذا سيطر الصدوقيون على الهيكل ورجال الأعمال على الاقتصاد ورجال السياسة على الحكم وكان وشائج الصلة والمنافع المشتركة وأيضاً المصاهرة شديدة القوة بين هذه الطوائف الثلاث في فلسطين القرن الأول الميلادي.

أما الفريسيون فهم الذين يؤمنون بكل الكتاب من توراة وأنبياء وأحاديث يهودية عديدة وتفسيرات شديدة الدقّة لكل أمور الحياة كما أنهم ادعوا وجود تقليد سماعي عن موسى تناقله الخلف من السلف وزعموا أنه معادل لشريعته المكتوبة. من حيث العقيدة كانوا يؤمنون بخلود النفس وقيامة الجسد ووجود الأرواح والجنة والنار، غير أنهم حصروا الصلاح في طاعة الناموس فجاءت دياناتهم ظاهرية وليست نابعة من القلب. كانت هذه الطائفة من الدعاة هي الأقرب للشعب فكان الناس يسألونهم عن أمور دينهم ودنياهم فامتلأت القنوات الفضائية بهؤلاء الفريسيين وراح الناس يستفتونهم في كل أمور حياتهم من قضاء الحاجة إلى مباشرة النساء. وكلما مارس هؤلاء الفريسيون غلواً شديداً في التحريم والتكفير، وكلما زادت كراهيتهم لنظام الحكم واتهامه بالفسق والفجور، كلما ازداد تعلق الناس بهم لكونهم يرون فيهم ما يتناقض مع فساد السلطة السياسية والدينية والدوائر المحيطة بها من رجال المال والأعمال والفن وأعلام المجتمع اليهودي. لهذا السبب كان كل من يريد قبولاً من الشعب يظهر "التزامه" الديني بفروض الفقه الفريسي ويعلن ارتباطه بنجوم الدعاة الفريسيين الذين ظهرت منهم مؤخراً طبقة حديثة تستخدم لغة عاطفية بسيطة تصل إلى قلوب الشعب لكن يظل مضمون تعليمهم فريسياً متشدداً.
وكان من بين الفريسيين أيضاً جماعة أو جناحاً عسكرياً يسمى جماعة الغيوريين. هؤلاء الغيوريون يميلون إلى تحقيق ملكوت المسيح بقوة السلاح وذلك للإسراع بمجيء المسيح بطلاً سياسياً وعكسرياً يحرر اليهود من الرومان ويعيد أمة الخلافة اليهودية من النهر إلى البحر مظهراً دين الله على الدين كله ولو كره الغرب الروماني الكافر. لذلك كانوا بين الحين والآخر ينظمون عمليات إرهابية فيها يختطفون أو يغتالون أحد السياسيين أو الكتاب المتحررين. أو يفجرون أنفسهم في إحدى الحافلات السياحية أو أحد المقاهي المنتشرة حول الحرم أثناء الموالد اليهودية المختلفة.

وسط هذه الخريطة الدينية تاقت أرواح الناس وبخاصة الشباب الذين يبحثون عن الصدق والحقيقة إلى خبرة روحية حقيقية تقرب الإنسان من الله ومن أخيه الإنسان وتعطيه معنى جديداً لحياته متحرراً من الدين الرسمي والشعبي على حد سواء. تاقت القلوب إلى علاقة روحية شخصية مباشرة بالله بعيداً عن تقاليد الدين وتسلط رجاله على الناس. وقد ظهر هذا الشوق لله وللخبرة الروحية في صور عديدة منها من ظل متمسكاً باليهودية ولكن في صورة أخرى تبحث عن الله بعيداً عن فساد الدين الرسمي من ناحية والتشدد والتزمت من ناحية أخرى والعنف والإرهاب من ناحية ثالثة. ومنها من كفر باليهودية تماماً وذهب وراء الديانات السرية ذات الأصول الوثنية.
من بين حركات التجديد الروحي اليهودية التي قامت في القرون الميلادية الأولى حركة الآسينيين الذين يقال أنهم تفرعوا من الكهنة الصدوقيين رافضين ديانتهم المادّية وعاشوا في مجتمعات صغيرة في الصحراء حياة صوفية من النسك والفقر الاختياري ممتنعين عن الزواج أو أي من مباهج الحياة. من بين الآسينيين جماعة وادي قمران وغيرهم عاشوا متوحدين في أنحاء متفرقة من صحراء اليهودية.
أما الديانات السرية فكانت عديدة أهمها كانت ديانة مثرا التي كانت شائعة بالذات داخل الجيش الروماني من القرن الأول إلى الرابع الميلادي وهي منسوبة للإله الفارسي مثرا المولود من صخرة. و تتم عبادة مثرة في معابد سرية تحت الأرض ومن ينضم لهذه الجماعة عليه أن يمارس طقوس خاصة فيها يقوم بذبح ثور والشرب من دمه والاغتسال بهذا الدم إيذاناً بولادته من جديد في الدين المثرائي ثم بعد ذلك يرتقي الداخل في هذا الدين سبعة رتب في الجماعة بقدر وفاءه بالطقوس والعهود. كانت هذه الديانات السرّية تقدم للناس خبرة خاصة وتشبع احتياجاهم للعلاقات الحميمة وللدخول في مجتمع آخر غير المجتمع الذي يشعرون بفساده واليأس من تغييره.



كان البناء في "مول" الحرم لا يزال في مراحله الأولى والرمال والزلط وأكياس الأسمنت في كل مكان واختلط صوت خلاطات الخرسانة بأصوات التسابيح الخاصة بالعيد. مئات الحجاج من كل حدب وصوب يتحركون في جماعات تستطيع تمييز ملابسها من غيرها من الجماعات بحسب البلاد الذين قد أتوا منها. من فرس وعرب من شبه الجزيرة، وأيضاًِ سوريون وعراقيون من الساكنين بين النهرين كما كان هناك أيضاً يهود من شتات آسيا الصغرى ومن شمال إفريقيا من مصر و ليبيا ونواحي تونس والمغرب ومن بلاد الحبشة وغيرها من البلدان الإفريقية.
أما الدخلاء من غير اليهود من الرومان واليونايين وغيرهم الذين أتوا من بلاد الإمبراطورية المختلفة مع جيرانهم اليهود ليتعرفوا على عبادة الله الواحد في أورشليم فلم يستطيعوا الدخول لمتابعة العبادة من داخل الهيكل بسبب استغلال الكهنة لرواق الأمم كمكان لتغيير العملة وبيع الذباح فوقفوا في الخارج مكتفين بسماع الأناشيد والتراتيل.
مال يسوع على أحد الدخلاء وهو رجل إفريقي ذو بشرة داكنة يحاول أن ينطق الكلمات العبرانية الصعبة ممسكاً بكتاب صغير فيه بعض تسبحات العيد.
ـ من أين أنت يا صديقي؟
ـ أنا من الحبشة
ـ أهلاً بك في بيت الله. بيتك.
ـ بيتي؟
ـ نعم بيت الله هو بيت الصلاة لجميع الأمم
ـ ظننت أننا غير مقبولين هنا ولا يمكننا الدخول حتى لا ننجس الهيكل، بل أني سمعت أن كهنتكم سيحرمون علينا دخول أورشليم وسوف ينشأوا طريقاً يدور حولها لكي لا نضطر أن ندخل أورشليم أثناء سفرنا إلى الجليل أو السامرة.
ـ نعم أعلم ذلك
ـ وعلمت أيضاً أنهم سوف يسمونه "طريق الكفار"
ـ ليست هذه مشيئة الله يا صديقي
ـ كيف ليست هذه مشيئة الله؟ أليست هذه توجيهات الكهنة الذين من المفترض أنهم يقرأون الكتب ويعرفون مشيئة الله.
ـ الكتاب يقول في نبوة إشعياء: «وَأَبْنَاءُ الْغَرِيبِ الَّذِينَ يَقْتَرِنُونَ بِالرَّبِّ لِيَخْدِمُوهُ وَلِيُحِبُّوا اسْمَ الرَّبِّ لِيَكُونُوا لَهُ عَبِيداً كُلُّ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ السَّبْتَ لِئَلاَّ يُنَجِّسُوهُ وَيَتَمَسَّكُونَ بِعَهْدِي آتِي بِهِمْ إِلَى جَبَلِ قُدْسِي وَأُفَرِّحُهُمْ فِي بَيْتِ صَلاَتِي وَتَكُونُ مُحْرَقَاتُهُمْ وَذَبَائِحُهُمْ مَقْبُولَةً عَلَى مَذْبَحِي لأَنَّ بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى لِكُلِّ الشُّعُوبِ» (إشعياء 56: 6-7)
- يبدو أنك أنت أيضاً رجل دين ما اسمك؟
ـ اسمي يسوع الناصري وما اسمك أنت؟
ـ اسمي أريرو تعال أعرفك بأصدقائي. نحن كثيرون هنا
ذهب يسوع مع أريرو ووجد جماعة كبيرة كلهم يحاولون متابعةالعبادة من بعد فاضطربت روح يسوع فيه وبدأ غضبه يزداد فجذب أحد الحبال التي كانوا يستخدمونها في رفع آنية الأسمنت للأدوار العليا فتهاوى إناء الأسمنت وانسكب ما به صانعاً ضجيجاً كبيراً. وأخذ يسوع يجدل هذا الحبل سوطاً كبيراً واندفع به إلى داخل الهيكل قاصداً رواق الأمم.

ترى ماذا سيفعل يسوع في رواق الأمم؟ هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة من "مملكة الله"

الأربعاء، ٢ سبتمبر ٢٠٠٩

يسوع واليهود في أورشيم



بدأ الربيع يبعث الدفء في أنحاء الجليل بعد شتاء قاسي. بدأت أغصان الأشجار الجافة العارية تخرج براعم غضة زاهية الخضار تداعبها ريح الفجر الربيعي فتتأرجح كأطفال فطيمة تبدأ في تعلم المشي في خطوات متأرجحة سريعة ثم لا تلبث أن تتعثر وتسقط لكن إرادة الحياة تدفعها من الداخل لمواصلة المحاولة. خرجت العصافير من أعشاشها مع الصباح الباكر تحتفل بالدفء والنماء. وأصواتها التي تشبه مجموعة صفافير في أوركسترا هائلة بلا قائد، ترصع سماء الفجر الجليلي الطازج. الأسبوع الأول من شهر إبريل (نيسان). الفصح يقترب. وهو الفصح الأول ليسوع بعد تركه مهنة النجارة وانخراطه في الخدمة الروحية المتفرغة هو وتلاميذه.
كان يسوع معتاداً أن ينزل مع أمه مريم ويوسف واخوته للعيد كل سنة، و ذات مرة عندما كان في الثانية عشر لم يعد معهما للجليل ومكث في أورشليم. أما أبواه فلم يعرفا وظنا أنه معهما في القافلة العائدة للجليل يلهو مع الأطفال. وبعد مسيرة يوم كامل شعرا ببعض القلق.
ـ يوسف. أين يسوع؟ غريب أنه لم يأت ليبيت معنا في الخيمة
ـ لا تقلقي يا مريم، لعله بات مع سمعان والصبية الآخرين يلهون. أنت تعلمين لقد صار الآن مراهقاً. يجب أن نعطيه مساحة من الحرية.
ـ أنا قلقة يا يوسف. أنت تعرف. ليس هذا طبع يسوع. سأذهب لأفتش عنه
ـ سآت معك
ولما لم يجدا يسوع في القافلة مطلقاً، قررا العودة إلى أورشليم ومعهما بعض الرجال للبحث عن يسوع في أورشليم وظلا يبحثان في كل مكان وعندما غابت شمس اليوم الأول ولم يجداه استجرا غرفة في خان صغير لقضاء الليل وفي الصباح يواصلا البحث عن يسوع و لم يستطع أي منهما أن ينام هذه الليلة...

ـ ما لك يا مريم. هل تبكين؟
ـ ألعل هذا هو السيف الذي قال سمعان الشيخ أنه سيجوز في نفسي؟! ثم كيف يختفي يسوع هكذا؟ وأين الوعود التي صاحبت ميلاده؟ ألعلها كانت تهيؤات. ألعلها أمانينا نحن بالخلاص!
ـ اهدئي يا مريم.. سوف نجده.
ـ أين نجده لقد فتشنا أورشليم كلها. لماذا يعطيني الله ابناً بدون رجل، ثم يأخذه هكذا قبل أن يصير رجلاً؟
ـ نامي الآن وفي الصباح نجده بإذن الله.

أشرقت الشمس على أورشليم وهي تسيل بقوافل الحجيج النازلة من الهيكل المرتفع مغادرة المدينة المقدسة في جميع اتجاهات فلسطين ومنها من كان مقصده إلى أبعد كثيراً. يتنفس سكان أورشليم الصعداء بعد الزحام الرهيب الذي يعانون منه طوال الأسبوعين الأولين من شهر أبريل من كل سنة.

ـ لم يبق إلا الهيكل. هيا نذهب يا يوسف
ـ من غير المعقول أن يكون يسوع في الهيكل. أنت تعرفين أن الكهنة لا يسمحون لأحد بالبقاء في الهيكل بعد انتهاء مناسك الحج، فكم بالحري الأطفال.
ـ لا أعلم. قلبي يقول لي أنه في الهيكل.
ـ لنذهب على أي حال
دخل يوسف ومريم إلى الهيكل حيث كان اللاويون خدام الهيكل يقومون بنشاط بتنظيف الساحة الخارجية من دماء وبقايا الأضحيات قبل أن تتعفن. وحول أحد الأعمدة كانت مجموعة من الكهنة مجتمعة وكان يبدو عليهم الاهتمام كما لو كانت بينهم مناقشة حامية.
ـ مولانا. أليست الوصية الأولى في التوارة هي «اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ» كيف يقول داود في المزمور المائة والعاشر: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: «اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ»؟ من هو "الرب" ومن هو ذاك الذي يدعوه داود "ربي"؟!
صمت الكهنة أمام سؤال كهذا يسأله صبي عمره لم يتجاوز الثانية عشر...
ـ لا تسأل عن هذه الأشياء يا فتى. أنت أصغر من أن نشرح لك هذه الأشياء. ثم.. ثم.. ثم لا تسأل عن أشياء من الممكن أن تزعزع إيمانك. اعرف شيئاً واحداً أن الله واحد واحفظ الوصايا. هيا. انصرف الآن.
ـ أعلم أن الله واحد. لكن.. آسف إن كنت قد أزعجتك يا مولاي.
خرج يسوع من وسط جماعة الكهنة فأبصره أبواه فجريا واندفعا نحوه واحتضناه وبكيا.
ـ يا بنيّ. لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوذا أبوك وأنا كنا نبحث عنك معذبين!
ـ لماذا كنتما تبحثان عني؟ ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في بيت أبي؟
ـ ما هذا الذي تقوله؟ بيت أبيك في الناصرة. هل اشترى أبوك بيتاً في أورشليم؟! هل ستعود للكلام الذي لا نفهمه!
ـ أنا آسف يا أمي. سامحني يا أبي. لقد كنت أصلي ونسيت نفسي. إنني في الهيكل أشعر بشيء غريب. أشعر أن هذا مكاني وبيتي ولا أشعر أنني أحتاج لأن أذهب لأي مكان آخر. سامحاني
ـ وهل لم تخف لأنك لم تجدنا
ـ أنا آسف. لم أخف!
مضا يوسف ومريم مع الرجال الذين أتوا معهم وكان يسوع يمشي وحده وراءهما وذهنه شارد في اشياء يفكر فيها ولم يقلها لأحد.
ـ هل تعلمين؟ مرات أشعر أن هذا الولد ليس منا. إنه ليس مثلنا. وكأنه ابناً لشخص ليس من جنسنا!
ـ هل ستعود للشك يا يوسف؟
ـ لا يا مريم. أنا أصدقك. لقد ظهر لي ملاك الرب في رؤيا وقال لي عن حملك أنه من الله. لكنني لا زلت لا أفهم لماذا؟ لماذا يفعل الله هذا؟ هذا لم يحدث من قبل؟ وفي بعض الأحيان أحتار. أنا واثق في شرفك، لكن في بعض الأحيان أحتار، فأقرر أن أنسى الأمر وأتجاهله.
ـ حتى أنا، أحياناً أشك. لقد قال لي ذلك الرجل الذي كان يشبه الملاك أنه سيدعى "ابن العليّ" لكني لا أعلم كيف يكون إنسان ابناً لله! لقد ظننت فقط أنه سوف يكون مباركاً وتقياً. لكن يسوع ليس مجرد صبي متدين. بل به شيء غريب! في بعض المرات، حتى أنا، أشعر أنه ليس ابني. صحيح أنه يخضع لي ويطيعني. لكنني في مرات كثيرة أشعر كما لو كان هو الكبير وأنا الصغيرة!
يضحك يوسف ثم تخفت ضحكته وتتحول ملامحه للجد.
ـ تصوري. أنا أيضاً أشعر بذلك أحياناً!

إنه الآن أول عيد فصح بعد تمام يسوع الثلاثين وتفرغه للخدمة وانتقاله لكفر ناحوم. وهاهو يسوع ينزل إلى أورشليم للمرة الأولى بعد أن صار رسمياً رجل دين وانضم إلى طائفة الكتبة وهي طائفة معلمي الناموس والأنبياء.
ترى ماذا سيحدث في أول زيارة ليسوع وتلاميذه لأورشليم. هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة من "مملكة الله"

الثلاثاء، ٢٥ أغسطس ٢٠٠٩


1
مملكة الله تلك العبارة المشحونة بالمشاعر والمعاني المغلقة على الفهم، تجعل الصور تتراقص في خيال السامعين للراهب الثائر يوحنا المعمدان وهو يصرخ قائلاً:
"توبوا لأنه قد اقترب ملكوت الله."
صور مبهجة تدور في خيال السامعين... رايات زاهية الألوان تخفق تحت رؤوس تملؤها العزيمة والتصميم، جيوش براقة تلمع فيها حدود السيوف المسنونة والخوذات النحاسية والنياشين الذهبية.
الهيكل على مرتفع عالي في وسط المدينة المقدسة أورشليم وقلب حياتها. بناء شامخ، مفخرة كل الشعب الساكن في الأراضي المقدسة والمتناثر في كل أنحاء العالم. يقتطعون من قوت عيالهم لكي يحجوا إليه كل سنة. قصر الملك، كنوز سليمان .ذلك الحلم بالمملكة التي يأتيها الزوار المبهورون من المشرق والمغرب. رُسل من كل أمة وشعب، بيض شقر وسود لامعين وصفر قادمين من أقصى الشرق يترضون وجه الملك بهدايا من بلادهم. كل خيرات الأمم تتدافع إلى أورشليم وشعبها غارق في عبادة الإله الواحد الذي تنكسر أمامه كل الأصنام.
بينما كان تعليم المعمدان يشكل رأس الحربة في الحراك الديني الحادث، كانت رياح التغيير تلعب في اليهودية والجليل والحراك الاجتماعي والاقتصادي يتصاعد. الجميع يشعرون بالترقب المشوب بالحذر والخوف وبعض اليأس من التغيير. هيرودس الكبير مات بعد أن قضى على عرش أورشليم أكثر من ثمانية وعشرين سنة. بعد وفاته تقسمت فلسطين بين أرخيلاوس الوالي على اليهودية و هيرودس أنتيباس على الجليل وفيلبس أخاه على قيصرية (التي سمت باسمه "قيصرية فيلبس").
ميليشيات الإخوان اليهود "الغيوريين" تتدرب في أماكن صحراوية نائية لتبقى متأهبة على هامش الحياة السياسية منتظرة اللحظة التي يضعف فيها الحكم للدرجة التي تجعلها قادرة على الوثوب عليه في أي وقت مثل البكتريا التي تعيش في الأمعاء منتظرة ومتمنية اللحظة التي تضعف فيها مناعة الجسم المترهل المثقل بالهموم والديون والفساد.
ولعل المثل الصارخ للفساد كان هيرودس أنتيباس. حاكم الجليل الذي جمع حوله ثلة من التجار والعشارين الفاسدين الذين يمتصون دماء الشعب، ويلقون له بفتات من "فرص العمل" ووعود الاستثمار الذي لا تذهب ثماره إلا إلى فئة الواحد بالمائة من الشعب، بينما الباقون يزدادون فقراً وكلما علت بعض أصوات المعارضة لفضح الفساد وارتفاع الهوة بين الأغنياء والفقراء، كان الرد سريعاً بتقارير وإحصاءات كلها تشير إلى النمو الاقتصادي الذي حققته الحكومة خلال السنوات الأخيرة وكيف ارتفع "متوسط" دخل الفرد في الجليل وكيف معدل الإنفاق قد زاد مدللين بذلك على ارتفاع مستوى المعيشة. بينما الحقيقة أن هذا الإنسان "المتوسط" ليس سوى إنسان افتراضي غير موجود سوى على أوراقهم. فهو المتوسط الحسابي بين الغنى الفاحش والفقر المدقع الذي يعاني منه شعب الجليل. وهكذا يستمر "التعاون" بين رجال السلطة ورجال المال.
تذهب الكاميراً بعيداً..تخرج تدريجياً من كردون المدينة الأخطبوطية المترهلة ـ أورشليم، التي تترامى أطرافها بدون تخطيط وبضعف شديد في البنية التحتية والقدرة على الإدارة.. تعبر الكاميرا "الطريق الدائري" الذي يصل أورشليم بأريحا. وهو طريق متهالك، رغم حداثته، وحالك الظلام، حيث تضاء مصابيحه في النهار وتطفئ ليلاً. ربما كان هذا هو السبب الذي يجعل الكثير من حوادث التحرش والاغتصاب والسرقة بالإكراه تحدث ومن هذه القصص تلك القصرة الشهرية التي تناقلها المجتمع عن ذلك السامري "الصالح" الذي أنقذ يهودياً هجم عليه اللصوص في هذا الطريق.
تتحرك الكاميرا إلى الغرب قليلاً لتجد مجموعة من اليهود الأتقياء الذين يعيشون في الكهوف المنتشرة في صحراء اليهودية. يصلّون طوال الليل والنهار متهجدين طالبين مجيء الملكوت. كانت هذه المجموعات المسماة بالقيروانيين أو الآسينيين تصلي منتظرة حلول ملكوت السموات ـــ العدل الكامل ــ البر الذي لا تشوبه شائبة ــ اختفاء الفقر والمرض و الخطية وانتشار الإيمان الصحيح. ينتظرون أن يأتي المسيا بقوة وسلطان إلهيين ليفعل هو كل شيء وهم يقفون وينتصبون ويمجدون الله.
لقطة بانورامية للهيكل..
اليوم عيد الفصح. نهاية مناسك الحج إلى الهيكل في أورشليم..... مئات من البسطاء يسيرون بإعياء طريقاً طويلاً صاعداً للهيكل.. فقراء اقتطعوا من قوتهم اليومي ثمناً لذبائح متواضعة مثلهم من الحمام واليمام يرجون بها أن يتقبل الله صلاتهم ويغفر ذنوبهم. بعضهم جاءوا من بلاد بعيدة يحملون جوازات سفرهم وبها تلك التأشيرة الغالية للأراضي المقدسة التي دفعوا فيها ربما كل ما يملكون. بعضهم جاء بالقُرعة الحكومية في وسائل نقل أقل من الآدمية "استشهد" فيها السنة الماضية الآلاف غرقاً في البحر على ظهر سفينة يملكها أحد رجال الثقة المقربين من الحكم الهيرودسي في الجليل والذي فر بالطبع دون عقاب منتظراً أن ينسى الناس الذين لا يجيدون شيء سوى النسيان. ثم يأتي حكم البراءة بعد سنوات كخبر صغير في الجريدة الحكومية لا يقرأه أحد! بعضهم وضعوا كل مدخرات شيخوختهم آملين أن يموتوا ويدفنوا في أطهر بقاع الأرض أو حتى يموتوا دونها. وإن عاشوا فثمّة رحلة واحدة سنوياً إلى الهيكل في أورشليم تضمن لهم غفران الخطايا والبداية من جديد.
تصعد الكاميرا وتسبق جموع الحجيج. تتزايد سحب البخور وتتضح تدريجياً أصوات التراتيل الدينية بلغة غريبة لم يعد يستخدمها أحد. تتسلل الكاميرا الخبيثة خلف أحد أعمدة الهيكل في القُدس الذي يتمتع بدرجة من الظلام حتى في منتصف النهار تكون كافية لأن تحدث فيه أحداث بعيدة عن عيون الصحافة التي أصبحت متربصة بالجميع.
من هذا؟ إنه أحد كبار تجار أورشليم.. ملابسه الحريرية تكشف حالته الاقتصادية المختلفة عن أغلب السائرين حوله في جماعات تتفرق وتتجمع بينما يقوم الجميع بمناسك الحج.
لماذا يتحرك بسرعة متسللاً خلف هذا العامود؟
ما الذي يخرجه من حزامه المصنوع من الحرير "السادة" والذي يلف به ثوبه الحريري الفضفاض المنقوش بنقشة بارزة لا تنسج إلا في بلاد الهند البعيدة مما يجعله غالي الثمن جداً. هزّ الكيس قليلاً في فخر، فهمست رنة مكتومة لعملات ذهبية تكدست داخل الكيس لا يكون حجمه كبير. يمد به يده بخوف وتردد ... تخرج من الظلام يد متمرسة وفي حركة خاطفة بارعة تلتقط الكيس. تقتحم الكاميرا "الشقية" الظلام لترى من صاحب اليد التي خرجت من الظلام وتكون المفاجأة !
إنه مولانا نيافة الحبر الجليل شيخ الهيكل الأكبر..
بسرعة تحركت خطوات صاحب النيافة بخفة وسرعة غير متمشية مع سنوات عمره الستين والتي تشى بها لحيته التي تمكن منها المشيب، وفي حركة واحدة أخفى كيس الذهب في ملابسه السوداء الفضفاضة التي تصدر مع خطواته السريعة حفيفاً مسموعاً يشبه ضربات الأجنحة الجلدية للخفافيش التي تعيش في الكهوف المظلمة أثناء النهار. توارى مولانا خلف الأعمدة الكثيرة.. وانسحب التاجر ليخرج بسرعة من القدس ويختفي وسط زحام الحجيج متوجها ً لقاعة الأمم.
قاعة الأمم هي إحدى قاعات الهيكل كانت في التصميم الأساسي مخصصة للضيوف من الأمم الوثنيين الذين كانوا يسمعون من اليهود المقيمين في بلادهم عن الإله الواحد فيأتون معهم لحضور مناسك عبادة هذا الأله حتى أن بعضهم يقرر الانتماء له وعبادته. لذلك فقد كان في تصميم الهيكل مكاناً لغير اليهود للمشاركة في العبادة، وذلك بناء على الفقرة الواردة في نبوة إشعياء: «وَأَبْنَاءُ الْغَرِيبِ الَّذِينَ يَقْتَرِنُونَ بِالرَّبِّ لِيَخْدِمُوهُ وَلِيُحِبُّوا اسْمَ الرَّبِّ لِيَكُونُوا لَهُ عَبِيداً كُلُّ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ السَّبْتَ لِئَلاَّ يُنَجِّسُوهُ وَيَتَمَسَّكُونَ بِعَهْدِي آتِي بِهِمْ إِلَى جَبَلِ قُدْسِي وَأُفَرِّحُهُمْ فِي بَيْتِ صَلاَتِي وَتَكُونُ مُحْرَقَاتُهُمْ وَذَبَائِحُهُمْ مَقْبُولَةً عَلَى مَذْبَحِي لأَنَّ بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى لِكُلِّ الشُّعُوبِ» (إشعياء 56: 6-7)
لقد كان في التصميم الأساسي للهيكل أن يكون بيت صلاة لكل الشعوب وليس للشعب اليهودي فقط لقد كانت مسئولية الشعب اليهودي ليست فقط أن يكون فقط "خير أمة أخرجت للناس" وإنما أن يكون نوراً للأمم: « أَنَا الرَّبَّ قَدْ دَعَوْتُكَ بِالْبِرِّ فَأُمْسِكُ بِيَدِكَ وَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْداً لِلشَّعْبِ وَنُوراً لِلأُمَمِ لِتَفْتَحَ عُيُونَ الْعُمْيِ لِتُخْرِجَ مِنَ الْحَبْسِ الْمَأْسُورِينَ مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ.» (إشعياء 42: 6-7)
مع الوقت ضَعُفَ الاهتمام بهذه القاعة وكان هذا يعكس كراهية اليهود لكل الأمم من غير اليهود حيث اعتبروهم كلاباً وأقل من البشر. لم يكن منطقياً بالنسبة لهم أن يساووا بين اليهوديين والمجرمين، فظلت هذه القاعة خالية مهجورة لقرون عديدة، حتى جاءت الحكومة الحالية بأحلامها وبرامجها الاستثمارية. وفي أحد اجتماعات مجلس الوزراء، تساءل وزير "الاستثمار" بجرأة يتمتع بها ذلك الجيل الجديد من قادة الحزب: " لماذا تظل هذه القاعة هكذا خالية ، طالما لا يجرؤ أي إنسان من الأمم أن يطأها بقدمه؟!" عندئذ نظر أفراد الحرس القديم بعضهم لبعض مندهشين لجرأة هذا الوزير الجديد الذي يتنمي لطبقة رجال الأعمال والذي لم يمارس السياسة مطلقاً قبل التحاقه بالحكومة، لذلك لم يكن يفكر إلا بمنطق الربح والخسارة ولم يكن يدر أن هناك مناطق محظورة لا ينبغي الكلام عنها مطلقاً. مضى الوزير الشاب يواصل حديثه ولم يستطع أحد مقاطعته فهو صديق عزيز لابن الملك الذي يعدونه للخلافة.
- لماذا لا نستغلها لإقامة مشروع استثماري يديره بعض من رجال الأعمال الوطنيين، ويوفر فرص عمل للشعب المكافح؟! .. لم يفته أن يستخدم بعض من العبارات السياسية المعروفة التي لم يكن في واقع الأمر يؤمن بها.
لم يعلّق أحد بالقبول أو الرفض. ثم في اجتماع سرّي بإحدى الليالي الخالية من القمر بين الحبر الجليل وبعض من ثقاة الكهنة المقربين له، و شيخ التجار، الذي هو أيضاً عضو في مجلس الشعب اليهودي (المجمع) عن دائرة كفر ناحوم، التي لا يزورها إلا قبيل الانتخابات ليوزع الذبائح وأثواب القماش الرخيص، وبعض من التجار الآخرين الذين لديهم خبرة ببناء الأبراج، مثل البرج الذي في سِلوام الذي بسبب "التوفير" في أساسته من الأسمنت والحديد المغشوش الذي يحتكر صناعته عضو بارز آخر في الحزب الوطني اليهودي، سقط على سكانه وقتل ثمانية عشر منهم.
وبالطبع كان التعاون بين الحبر الجليل، الذي هو أيضاً مفتي الديار اليهودية، ودوائر الحكم على أشدّه في ذلك الوقت، فعقد الشيخ الكبير يومها "مؤتمراً صحفياً" دعا إليه كل مندوبي الصحف ووكالات الأنباء المحلية والأجنبية ليصرّح فيه بأن المصيبة التي حدثت، كانت عقاباً من الله فهؤلاء الثمانية عشر بالذات كانوا مذنبين أكثر من جميع الناس الساكنين في أورشليم في ذلك الوقت. حيث أنهم كانوا يُفرِّطون في الصلاة وكانت نساءهم سافرات متبرجات فأنزل الله بهم هذا العقاب.
هذه مجرد عينة من التعاون المستمر بين رجال المال والتجارة الذين يشكلون الرأسمالية الوطنية اليهودية ورجال الدين، حماة الهيكل والشريعة ومصدر الإفتاء والمشورة الدينية. وهذا بالطبع يعيد للأذهان القضية التي شغلت الرأي العام اليهودي لشهور عديدة ، وهي قضية زواج الملك هيرودس أنتيباس الحاكم في الجليل من هيروديا امرأة أخيه فيلبس. وثار الجدل وكتبت كل صحف المعارضة عن الزواج وكيف أن هيرودس كان في علاقة عاطفية مع هيروديا حتى أثناء حياة فيلبس. بينما كان صُحُف الحكومة تفرد المقالات الطويلة التي توضح فيها سماحة هيرودس وكيف أنه "اضطر" للزواج منها حماية لها من الفتنة بعد أن كفر زوجها فليبس، أخو الملك وتورط في عبادة زيوس في روما حيث كانا يقيمان. فأصبح لزاماً على الملك هيرودس حامي الإيمان أن يفرِّق بينها وبين زوجها الكافر ويأخذها لنفسها حماية لها وللأسرة المالكة برمتها.
دارت هكذا القصة "الحكومية" التي تم توزيعها على كل الصحف القومية:
بينما كانت هيروديا في زيارة حج إلى أورشليم، قام الحبر الجليل مع الملك هيرودس بإقناعها ألا تعود لزوجها الكافر فيلبس، حتى أن الحبر الجليل أفتى بتفريقهما بسبب كفر وفسق فيلبس الذي شوهد يدخل هيكل زيوس في روما، كما أن هذا الملك الفاجر الفاسق قد عقد اجتماعاً مع كتاب ومفسرين اليهود معروف عنهم تحررهم وكفرهم ومحبتهم للوثنيين من اليونانيين والرومان، وقاموا في هذا الاجتماع ببث أفكاراً هدامة من شأنها الإساءة لليهودية وشيوع الكفر والإلحاد وزعزعة نسيج الأمة الواحد.
( أشارت صحيفة يسارية معارضة إلى هذه الاجتماعات وأوضحت أنها كانت تهدف إلى إيجاد فهم لاهوتي معاصر للكتب المقدسة وتبني مزيد من الحرية في تفسير النصوص و مراجعة التفسيرات الحرفية التي اعتبرات الأمم كلاباً و الدعوة إلى علاقات حوار مع الأمم من اليونان والرومان)
وتستكمل القصة الحكومية....
وبالطبع تدخل الملك الرحيم هيرودس بسماحته المعهوده وقرر أن يتزوجها حماية لها وحماية لسمعة الأسرة المالكة التي لوثها فيلبس الكافر الزنديق.
بالطبع هرعت الصحف الحكومية لتمجيد الملك المؤمن هيرودس الذي ضحى وتزوج هيروديا، حتى أن بعض الكتاب "الوطنيين" ذهب به الأمر إلى أنه قص رواية عن رؤيا رآها هيرودس، يأمره الله فيها بأن يتخذ هيروديا زوجة له، فما كان من هيرودس إلا أنه أطاع الأمر الإلهي!
هذا بالطبع بالإضافة إلى الكثير من القصص والروايات التي كانت تطبع في المطابع الحكومية التابعة لهيئة "قصور" الثقافة و تنشر على نفقة الدولة مثل: " هيرودس وهيروديا. أمل اليهودية!" و " توافق الأسرة الملكية.. هيرودس وهيروديا". واستمر اللغط في الشارع اليهودي، فاضطر مولانا غبطة الحبر الجليل، مفتي الديار اليهودية أن يتدخل بوطنية بالغة لإنقاذ البلاد من الفتنة ولتحقيق "الأمن" والاستقرار، فعقد مؤتمراً صحفياً مشابهاً أقر فيه بشرعية زواج هيرودس من هيروديا ليتم إغلاق الملف إلى الأبد فقد قال الدين كلمته في القضية ولا يملك هيرودس إلا أن يمتثل للفتوى التي جاءت من المتخصصين من أهل الذكر، و"يضطر" للاحتفاظ بهيروديا زوجة له.
نعود للاجتماع الاستراتيجي الذي تم بمعرفة ومباركة، ولكن دونما تورط مباشر، من رجال الحزب وفي هذا الاجتماع تم وضع خطة سرية متدرجة، لتفادي ثورة الشعب، تهدف في النهاية إلى جعل قاعة الأمم الكبيرة "مولاً" تجارياً به محال عديدة المفترض أنها لبيع الذبائح للشعب القادم للحج والقيام بخدمة تغيير العملة للحجاج القادمين من بلاد أخرى تستخدم عملات مختلفة. ثم بالتدريج تضاف محال أخرى لبيع مستلزمات الحج المختلفة المستوردة من الشرق، مثل السبح الكهرمانية والسجاجيد الأزميرية والعطور ومستحضرات التجميل المقدسة التي تجعل من خبرة الحج خبرة "خمس نجوم". ثم في المرحلة التالية تضاف بعض المقاهي الرومانية الحديثة ومطاعم الوجبات السريعة التي تخدم الحجاج القادمين من بلاد بعيدة وليست لهم بيوتاً في أورشليم ليأكلوا فيها.
كما تم الاتفاق على أن يكون هناك امتداداً أو مرحلة ثالثة للمول التجاري تبنى في صورة طابق علوي يتم الربط بينه وبين قاعة الأمم بمصعد ذو جدار شفاف يتيح للمتسوق في المول أن يرى صورة بانورامية للهيكل كله بحيث يستمتع بخبرة التسوق والخبرة الروحية الورعة في آن واحد!
وتم الاتفاق على تسويق "مول الأمم" هذا في كل الأمم لكي يأتي الحجيج من بلادهم وهم مستعدون لخوض تلك التجربة المتكاملة، فتم الشروع في إطلاق موقع على الانترنت شعاره: "مدينة عالمية على أرض يهودية... الدين والدنيا معاً! "
واتفق الجميع على نسبة توزيع الربح، بالطبع مع التأكيد على ذهاب بعض "التبرعات" من أجل تنمية مشروعات جيل "المستقبل" و تأليف الكتب عن "الفكر الجديد" للحزب اليهودي المتجدد دائماً وبالذات على مدار السنوات الثمانية والعشرين الماضية!
وقبل نهاية الاجتماع.. اقتحم المكان فجأة أحد الرجال الذين يرتدون الحلل السوداء والنظارات السوداء ويضعون أشياءّ لا يعرفها أحد في آذانهم، ومال على أحد الحاضرين في الاجتماع مخبراً إياه بأمر يبدو أنه عاجل وخطير....
ثم سرعان ما دخل عدة رجال مماثلون ومال كل واحد منهم على أذن الرجل الخاص به في الاجتماع. وكما يبدو، نقلوا نفس الخبر لكل "الكبار" الموجودين... تكهرب الجو... و انتهى الاجتماع بسرعة فلم يختموه بالصلاة، وهرع كل واحد إلى مكتبه وجيش أعوانه وموظفيه لمحاولة السيطرة على هذا الموقف الخطير الجديد!
2
تحول لون الشمس إلى البرتقالي المائل إلى الحمرة وصارت مثل قرص كبير مرسوم بيد ثابتة لتلميذ تجاوز العاشرة وتعلم أن يلوِّن دون أن تخرج الألوان عن الحدّ. في هذه الساعة من الغروب، انصاعت أشعة الشمس الحارقة وصارت خافتة مروّضة لا تخرج عن حدود ذلك القرص البرتقالي الهائل الذي يعلو هامات جبال قمران ويمكن للعين المجردة أن تنظر إليه طويلاً وتتأمل جماله الأخاذ.
بدأت أضواء مصابيح زيتية مرتعشة ترصع الفضاء الذي بدأت تزحف عليه الظلمة مثل نقوش ذهبية متفرقة على ثوب سهرة داكن الزرقة. وبدأ سكون المكان ترصعه أصوات تراتيل خافتة تتخللها أصوات الرياح التي تصفر في فتحات الكهوف المتناثرة حول الوادي.
كان وادي قمران يقع على بعد نحو ميل إلى الغرب من الطرف الشمالي الغربي للبحر الميت . وعلى بعد يزيد قليلاً عن ثمانية أميال إلى الجنوب من أريحا. مكان منعزل، بعيد جداً عن أورشليم العاصمة لذا فقد كان موقعاً مثالياً لتلك الجماعة التقية التي اختارت لنفسها الهجرة عن المجتمع الأورشليمي الكافر لكي تنتظر مجيء المسيا وتحقق مملكة الله.
..اللهم انصرنا نحن أبناء النور..على القوم الكافرين
...اللهم شتت جمع أبناء الظلمة
... ليأت ملكوتك على الأرض
... يا أيها الاسم الحقيقي
... اللهم انصر إسرائيل الحقيقية
... ولينهزم الكفر والشرك
.. اهدم أشباه الحقائق
.. والكهنوت الشرير
.. اللهم أنصر المعلم البار
.. الهادي المهدي المنتظر
.. وليأت المسيا
.. الذي تنتظره جميع الشعوب
.. ليسود السلام على الأرض
لقد كانت هذه الطائفة تتكون من جماعة من الكهنة المنشقين عن النظام الكهنوتي الحالي والعلمانيين، يعيشون حياة مشتركة من التقوى والتدين الشديد في الكهوف المنتشرة حول وادي قمران. وكان لديهم مبنى رئيسي يشغل مساحة إثنا عشر قدماً مربعاً و في الجانب الشمالي منه كان يقع المطبخ و حجرة الطعام التي يأكل فيها أفراد الجماعة معاً كل الوجبات وفق نظام دقيق. كلٌ كان يجلس بحسب رتبته ويقوم المعلم الكبير بمباركة الخبز والخمر ثم يتلون صلوات الشكر منتظرين يوم أن يجلسوا إلى مائدة المسيا الذي سوف يأتي لتبدأ مملكة الله.
وإلى الجنوب الغربي كانت توجد خمس حجرات تستخدم كأماكن للدراسة والصلاة. ومن بين هذه الحجرات الخمسة، كانت حجرة النساخ الذين كانوا يقضون أكثر من عشرة ساعات يومياً منهمكون في نسخ التوارة وكتب الأنبياء على رقائق من جلد الماعز موصولة معاً و لفها بعناية في لفائف من الكتان ثم وضعها في أواني فخارية أنيقة يصنعونها بأنفسهم في المستوطنة ذاتها.
وكان في الركن الشمالي الغربي من المبنى، برج حصين يتناوب شباب الجماعة على حراسته نهاراً وليلاً فقد كانت هذه الجماعة تتعرض بين الحين والآخر لهجمات منظمة من القوات الخاصة المدعومة بأفراد الأمن المركزي لتعتقل بعض من قادتهم وهكذا تبقي عليهم ضعفاء لكون الحكومة المركزية في أورشليم تخشى قيامهم، بعد طول الانتظار، بتحقيق مملكة الله بأيديهم. وهذا ما كانت تتبناه جماعة أخرى أكثر عسكرية وهي جماعة الغيوريون التي تتعرض لقمع الدولة أكثر منهم.
بعد افتضاح أمر أخته مريم التي ضبطت مع أحد الرجال بعد طلاقها، وهربها، لم يستطع بنيامين أن يبقى في قريته ليواجه كل يوم نظرات التعيير أو حتى نظرات الشفقة في عيون أهل القرية التي لم يكن لها حديث في ذلك الوقت إلا مريم المرأة المطلقة سيئة السمعة. دار بخلده في البداية أن يتتبع اخته ليغسل عارة بقتلها. وبالفعل اشترى السكين وهم بالسفر إلى أورشليم بعد أن عرف أنها ذهبت إلى هناك. لكنه لم يقو على ذلك.
لم يقو بنيامين أيضاً على البقاء في قريته فقرر أن ينضم إلى جماعة قمران في صحراء البحر الميت. ومنذ جاء بنيامين ليعيش في هذا المجتمع الديني الصارم اكتسب محبة الجميع من كهنة وعلمانيين فقد كان من أفضل النساخ وكان يقضي الساعات الطويلة ينسخ بدقة كل كلمة من كلمات التوارة والأنبياء، حتى أنه حتى الآن، بالرغم من كونه مستجداً، صاحب الرقم القياسي في النسخ.
اليوم تتم السنوات الثلاث التي يمكن بعدها لبنيامين أن يصبح عضواً رسمياً في جماعة قمران فبعد اتمامه لبعض الطقوس المبدئية، ظل بنيامين تحت الاختبار لمدة ثلاث سنوات تنتهي اليوم. لم يدر بنيامين كيف يشعر اليوم؟ كان قلبه مليء بالفخر والإنجاز لاجتيازه فترة الاختبار، لكنه كان يشعر في الوقت نفسه ببعض من الحيرة ويتساءل إن كان قد اختار الطريق الصحيح في الحياة.
ـ لا بد أنك سعيد اليوم يا بنيامين.
رد بنيامين وهو يغمس ريشته في المحبرة الرومانية ثم تردد قليلاً وأعاد الريشة إلى المحبرة.
ـ لنأخذ بعض الراحة. لا يمكن أن نتحادث هكذا ونحن ننسخ كلمة الله... أصدقك القول يا يوئيل يا أخي. لا أعرف! فأنا لا أكاد أنام هذه الأيام. بمجرد أن يطلق نفير النوم مساءاً وأذهب إلى فراشي، تهاجمني الأفكار كالخفافيش التي تملاً الكهوف المهجورة حولنا.
ـ فيم تفكر يا بنيامين؟
ـ الكثير. إذا توقفت عن التفكير في أسرتي، فإني أفكر في كلام العظات التي نسمعها هنا عن الملكوت الآتي والمعلمين الجدد الذين نسمع بهم مثل يوحنا المعمدان.
ـ ما المشكلة في أسرتك يا بنيامين؟
ـ لا.. لاشيء .. لا عليك بأسرتي.. الأهم الآن هو ملكوت الله. الجميع يتكلمون عن ملكوت الله، ترى من هم الصادقون؟
ـ بالطبع نحن. من المؤكد أن رئيس الكهنة الأورشليمي الفاسد وأتباعه الذين يهتمون بحرفية التوراة لا بروحانيتها لا يملكون الإجابة. نحن أبناء سيدنا إبراهيم الحقيقيين، نحن إسرائيل الحقيقية، وسوف يبدأ الحكم السماوي لكل العالم من هنا. من هذا المكان!
ـ كيف؟ لم يدر بخلدك ذلك السؤال: "كيف؟"
ـ سوف يأتي المسيا وسوف نكون نحن جنوده المخلصون. وسوف نهزم الحكم الفاسد في أورشليم ونحرر كل البلاد اليهودية من سطوة الغرب الروماني الكافر الذي يستخدم حكامنا كدمى يحركها كيفما يشاء. سوف يأتي "النبي" أولاً كما وعد الله موسى ليعد الطريق. ثم يبرز كوكب من يعقوب، ويقوم قضيب من إسرائيل، فيحطم طرفي موآب، ويهلك كل بني الوغى. وننتصر نحن بني النور على أبناء الظلام الكفار من بني الأمم غير اليهود والفاسقين من اليهود المتآمرين والمتعاملين معهم... احمر وجه يوئيل وبدا وكأنه يخطب في مئات التابعين..
ـ يوئيل.. هل سمعت عن يوحنا الذي يُعمد الناس للتوبة في نهر الأردن؟
ـ نعم وقد ذهبت بالفعل واعتمدت منه.. قال يوئيل وهو يحاول أن يخفف من حدّة حماسه
ـ هل فكرت فيم يقول؟
ـ الحقيقة لم أفكر كثيراً. لقد كان كل ما يهمني هو إتمام الطقس. فالمعموديات، كما تعرف، أمر ضروري جداً يا بنيامين للتطهير الحقيقي متى توفرت التوبة الحقيقية والخضوع لله. والحياة المنضبطة.
ـ قبل أن تعظ مرة أخرى يا يوئيل، دعني أقول لك، فأنا أيضاً قد ذهبت واعتمدت من يوحنا، لكني منذ ذلك الحين وأنا لا أستطيع التوقف عن التفكير فيما يقوله.
ـ الحقيقة أنا لم ألتفت لما يقوله لأنه، كما تعرف، ليس منا. يبدو من كلامه أنه أقرب للآسينيين. فهم قوم لا يتكلمون عن تحقيق ملكوت الله كما نتكلم. يميلون للتقشف الشديد ولا يتزوجون. لقد سمعت أن المعمدان يلبس لباساً من وبر الإبل ويأكل الجراد والعسل البرّي.
ـ ربما لا يتكلمون مثلما نتكلم عن الحرب والقضاء على الكفار، لكنهم يتكلمون عن ملكوت الله بطريقة أخرى.
ـ طريقة أخرى! أي طريقة؟ يا بنيامين يا صديقي .من رأى منكراً فليغيره بيده، وما أُخِذ بالقوة لا يسترد بغير القوة.
ـ هم أيضاً يتكلمون عن القوة. ولكن بطريقة أخرى.
ـ أي طريقة؟
ـ لقد توقفت كثيراً عند عبارة المعمدان " إن الله قادر أن يصنع من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم!" وأيضاً قوله " إذا كنتم تأتون إليّ للتوبة، فاصنعوا أثماراً تليق بالتوبة ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم: لنا إبراهيم أباً!"
ـ أسمعت ما قاله عن المسيح؟
ـ ماذا قال؟
ـ قال: " أنا أعمدكم بماء للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أحمل حذاءه. هو سيعمدكم بالروح القدس ونار. الذي مذراته بيده وسينقي قمحه ويجمعه إلى المخزن، وأما التبن فسوف يحرقه بنار لا تطفأ." ألعل هذا هو "النبي" يا يوئيل؟ ألعل هذا هو النبي الموعود في التوراة أن يأتي قبل مجيء المسيح ليعد الطريق أمامه؟
ـ لا أدري
ـ عموماً دعنا نعد إلى عملنا. أنا لا أريد أن يقل إنتاجي، وبالذات في اليوم الذي سوف أنضم فيه رسمياً للجماعة.
3
بالرغم من أن يسوع وصل إلى سن الثلاثين إلا أن القصص القديمة عن نسبه لا تزال تُروى بين الحين والآخر. فالجميع يعلم أن مريم وُجِدت حبلى قبل زواجها من يوسف وأن يوسف هو الرجل الطيب الذي ستر عرضها وصدق روايتها عن الحلم الذي رأت فيه ملاكاً يبشرها بأنها سوف تحبل بعمل إلهي معجزي وأن وليدها لن يكون ابناً لبشر بل سيُدعى "ابن الله"، وكيف أن بعد هذا الحلم الغر يب مباشرة توقفت الدورة الشهرية بالفعل وبدأت تشعر بالحمل. ومن القصص المنتشرة أيضاً أن يوسف هو الآخر رأى رؤيا تطمئنه لرواية زوجته. لم يكن صعباً على يوسف أن يُصدق مريم التي كان مشهوداً لها بالتقوى والصلاة في قريتها الناصرة بالجليل. إلا أن هناك قصص أخرى انتشرت تتهمها بالزنى مع جندي روماني يُدعى بانثيرا.
شب يسوع وسط هذه الشائعات و عندما كان طفلاً، كان كثيراً ما يعود لأمه من كُتّاب الهيكل باكياً بعد أن اتهمه أحد الأطفال أنه ابن زنا. وفي كل مرة كان يحدث أمراً كهذا، كانت مريم تصلي وكان إيمانها يساعدها على الاستمرار، وكانت تحكي ليسوع قصة الملاك. ويسوع نفسه كان طفلاً غريباً فقد كان يفهم قصة مريم ويصدقها، بل كثيراً ما يرى رؤى غريبة في المنام فيها يرى فيها نوراً شديداً وصوتاً يقول له: " انت ابني الوحيد!" وكان يقص هذه الرؤى على أمه التي كانت تحفظها في قلبها.
نفس هذه الصوت سمعه يسوع عندما خرج من الماء عندما ذهب ليعتمد من يوحنا المعمدان في بيت عنيا على نهر الأردن. ولكن هذه المرة سمع الصوت وسط النهار وهو في كامل اليقظة مما جعله يشعر بحيرة ممزوجة بفرح غريب. بعد هذه الحادثة بالتحديد ، شعر يسوع أنه يجب أن يترك عمله في النجارة ويتفرغ للخدمة الروحية، لكنه قرر أن يقضي في صحراء الأردن فترة صوم وصلاة طويلة قبل بدء الخدمة.
بعد المعمودية وبعدما عاد يسوع من صحراء الأردن إلى بيت عنيا بدء يفكر في تكوين فريق من التلاميذ والعودة للجليل. وذات مرة كان يوحنا المعمدان واقفاً مع أول تلاميذه أندراوس ومعهما بنيامين الذي بعد أن اعتمد من يوحنا، كان يجيء بين الوقت والآخر ليقضي معه ومع تلاميذه بضعة أيام يعود بعدها إلى المستعمرة. فقال يوحنا بعد أن نظر إلى يسوع ثم أطرق معلقاً عينيه على الأفق وبدا مستغرقاً في تأمل يفصله عن العالم كله....
ـ هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم!
ـ ما الذي يجعلك تقول هذا أيها المعلم، أنت لم تره إلا من مدة قصيرة.
ـ لا أعلم.. ولكنني عندما كنت أعمده رأيت شيئاً غريباً. جاءت حمامة بيضاء ووقفت على كتفه بعد أن خرج من الماء وشعرت كما لو كانت هذه الحمامة رمزاً لروح الله وشعرت كما لو كان الله يقول أنه ابنه الوحيد وأن علينا جميعاً أن نسمع له.. ثم ، باعتباري من العائلة، أعرف قصة ميلاده.
ـ قصة ميلاده؟
ـ نعم. لم يولد يسوع بطريقة عادية مثلنا. لقد ولد مباشرة من الله.
ـ مباشرة من الله. ما معنى هذا؟ أنا أعلم أن أباه نجار من الناصرة.
ـ هذا زوج أمه وهو قد رباه كأبيه تماماً، لكنه مولود ولادة روحية من الله مباشرة. تستطيع أن تقول أنه "ابن الله"
ـ ابن الله؟ أستغفر الله العظيم. وهل الله يلد ويولد؟ هل الله إنسان مثلنا فيلد ويولد؟
ـ يلد ويولد؟ بالطبع لا! لك معي كل هذا الزمان يا أندراوس ومازلت تفكر بهذه الطريقة الجسدية التي يفكر بها الكهنة في أورشليم!
بالرغم من عدم قبول أندراوس لما يقوله يوحنا إلا أنه شعر بفضول شديد أن يتعرف على يسوع فمشى هو وبنيامين وراءه، وعندما لاحظ يسوع التفت وقال.
ـ ماذا تطلبان؟
ـ أين تمكث؟
ـ تعاليا وانظرا
فذهبا معه إلى الخيمة التي كان يسكن فيها وكانت الساعة الرابعة بعد الظهر. وظل الثلاثة يسوع وأندراوس وبنيامين ساهرين لوقت متأخر من الليل حيث كان يسوع يتحدث إليهما ويعلمهما عن مملكة الله ويجيب كل تساؤلاتهما. حتى أن أندراوس قال في نفسه. أن لم يكن هذا "اليسوع" هو المسيا فما عسا يكون المسيا؟ ثم طرد أندراوس هذه الأفكار الغريبة من عقله واستغفر الله.
في الصباح هرع أندراوس إلى الخان حيث كان يبيت مع سمعان أخاه
بمجرد أن رأه صرخ سمعان في وجهه.
ـ أين كنت أيها الفتى الأخرق تتركني وتبات في مكان آخر دون أن تخبرني! لقد كدت أموت بالأمس من القلق وبحثت عنك في كل مكان وهم بأن يمسك بتلابيبه ويضربه.
ـ مهلاً يا سمعان ..اسمع.. عندما أقول لك السبب سوف تعذرني. أترك رقبتي سوف أختنق!
ـ ماذا عندك؟
ـ وجدت شخصاً غريباً جداً اسمه يسوع قضينا معه أغلب النهار ومكثنا معه لوقت متأخر من ليل البارحة. صدقني يا سمعان إذا استمعت إلى هذا الإنسان لن تستطيع أن تمنع نفسك من أن تظن أنه.. المسيا!
ـ لم يكفك ما فعلت وجئت لي سكراناً أيضاً ! وهم بأن يمسكه مرة أخرى.
ـ تعال معي وانظر.
ـ إلى أين؟
ـ سوف آخذك للمسيح
ـ مرة أخرى يقول لي المسيح!
في الطريق حكا أندراوس كل ما كان مع يسوع ويوحنا المعمدان وعن المعمودية والحمامة وقصة "ابن الله" وعندما وصلا إلى خيمة يسوع رآهما يسوع من بعيد فصاح:
ـ أنت سمعان بن يونا!
ـ رباه. كيف عرف اسمي. أقلت له عني؟
ـ أبداً لم أقل له شيئاً.
ـ أنت سمعان بن يونا وسوف أسميك الصخرة! نحن جيران من الجليل. أنا يسوع من الناصرة. أندراوس قال لي أنكما من بيت صيدا. لا يفصل بيننا سوى ميلان ونصف تقريباً تعاليا امكثا معي هذه الليلة لنواصل حديثنا نحن الثلاثة عن مملكة الله. تعال معنا أنت أيضاً يا بنيامين.
ـ للأسف أنا مضطر للعودة إلى وادي قمران. رحلتي طويلة. الرب معكم!
في اليوم التالي بدأ يسوع يعد للعودة من بيت عنيا إلى بلده ناصرة الجليل ولكنه كان لا يزال يشعر أن هناك تلاميذ هنا يجب أن يدعوهم ليكونوا معه فمنذ عادة من فترة الصلاة والصوم بعد المعمودية وقلبه يبحث عن هؤلاء.
وبينما كان يتمشى على نهر الأردن صادف شاباً يمشي متأملاً وكأنه يصلّي. فاقترب يسوع منه.
ـ صباح الخير
ـ صباح النور. لا يبدو عليك أنك من هنا. أهلاً بك في محافظة الأردن
ـ نعم. أنا من الجليل
ـ واضح. ملابسك ولغتك. شرفت بلادنا
ـ حقا؟ هل من الممكن أن يكون شخصاً مثلي من ناصرة الجليل مصدر شرف؟
ـ ليس الإنسان بالمكان الذي يسكنه، المهم ما يسكن قلب الإنسان.
ـ نعم يا فيلبس يا صديقي.
لمعت عينا الشاب واتّسعت
ـ كيف عرفت اسمي؟
ـ ليس الإنسان بما يعرفه، المهم أن يكون معروفاً من الله! .. قال يسوع هذا وهو يبتسم ابتسامة ماكرة مشيراً إلى عبارة فيلبس السابقة.
ـ واضح أنك لست شخصاً عادياً في الجليل
ـ نعم..أنا معلم
ـ معلم؟ في الجليل؟ هل يوجد معلمون في الجليل؟ وهل.. أعذرني.. هل تؤمن بالتوراة؟
فتح يسوع عيناه واسعاً.
ـ نعم! كيف أكون معلماً ولا أؤمن بالتوارة
ـ اعذرني. ولكن ما أعرفه أنكم في الجليل متحررون قليلاً وتؤمنون ببعض العقائد الوثنية بسبب سكنى الأممين بينكم.
ـ ليس الإنسان بمن يسكن معه، بل ما يسكن قلبه!
ضحك الشابين ضحكاً عالياً وبدا وكأنهما أصبحا أصدقاء منذ ذلك الوقت..وبعد أن خفتت الضحكات تدريجياً نظر يسوع إلى فيلبس في عينيه..
ـ ألم تقرأ المكتوب في نبوة إشعياء أنه إن كان الزمان الأول أهان أرض زبولون ونفتالي، أرض الجليل، فإن الزمان الأخير يكرم طريق البحر، عبر الأردن، جليل الأمم.
أكمل فيلبس النبوة...
الشَّعْبُ السَّالِكُ فِي الظُّلْمَةِ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا. الْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظَِلاَلِ الْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ. أَكْثَرْتَ الأُمَّةَ. عَظَّمْتَ لَهَا الْفَرَحَ. يَفْرَحُونَ أَمَامَكَ كَالْفَرَحِ فِي الْحَصَادِ. كَالَّذِينَ يَبْتَهِجُونَ عِنْدَمَا يَقْتَسِمُونَ غَنِيمَةً. لأَنَّ نِيرَ ثِقْلِهِ، وَعَصَا كَتِفِهِ، وَقَضِيبَ مُسَخِّرِهِ كَسَّرْتَهُنَّ كَمَا فِي يَوْمِ مِدْيَانَ. لأَنَّ كُلَّ سِلاَحِ الْمُتَسَلِّحِ فِي الْوَغَى وَكُلَّ رِدَاءٍ مُدَحْرَجٍ فِي الدِّمَاءِ، يَكُونُ لِلْحَرِيقِ، مَأْكَلاً لِلنَّارِ. لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ. لِنُمُوِّ رِيَاسَتِهِ، وَلِلسَّلاَمِ لاَ نِهَايَةَ عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ وَعَلَى مَمْلَكَتِهِ، لِيُثَبِّتَهَا وَيَعْضُدَهَا بِالْحَقِّ وَالْبِرِّ، مِنَ الآنَ إِلَى الأَبَدِ.
ـ كل هذا تحفظه يا فيلبس عن ظهر قلب؟
ـ نعم يا معلم. أنا لست أحفظه فقط في عقلي. إنني أحفظه في قلبي وأنتظر تحقيقه.
ـ لقد تحقق يا فيلبس!
ـ ماذا تقول؟
ـ أنا هذا " الولد"
صمت فيلبس وكأن السماء أطبقت على صدره
ـ اتبعني!
حاول فيلبس أن يتكلم.. لم يستطع ومشا الاثنين معاً دون كلمة لكن كان قلبيهما ممتلئان بالكلام الذي لا يقال!
بعد عدّة دقائق حاول فيلبس أن يخرج بعض الكلمات من صدره فخرجت كلمات قليلة متعثرة
ـ هل تستطيع أن تنتظرني دقائق. سأذهب في مشوار قصير وأعود إليك. أرجوك انتظرني.
حاول فيلبس أن يمشي ثم تدريجياً بدأ يسرع من خطاه. ثم في النهاية استسلم لرغبته في الجري، فأطلق ساقيه للريح كما كان يفعل وهو طفل. وبينا كان يجري كان يعود تدريجياً للطفولة. في دقائق أصبح فيلبس صاحب الثمانية والعشرين عاماً طفلاً صغيراً وجد شيئاً مثيراً فهرع إلى نثنائيل أخيه ليخبره.
عندما وصل إلى نثنائيل وجده جالساً تحت شجرة تين يقرأ ويدرس التوراة والكتب
ـ لقد وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء، يسوع ابن يوسف الذ ي من الناصرة. د
ـ أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟
ـ تعال وانظر
مشى الأخوان وطوال الطريق كان فيلبس يحث نثنائيل على الاسراع بينما نثنائيل يمشي محاولاً الحفاظ على وقار الأخ الأكبر بينما نبضات قلبه تتسارع فهو يعرف كيف أن فيلبس لا يمكن أن يقول هذا الكلام إلا كان كان واثقاً مما يقول فهو مثله يبحث عن الحقيقة، ويدرس التوراة والأنبياء بكل تدقيق.
وعندما اقبلا إلى يسوع قال يسوع:
ـ "هوذا اسرائيلي حق لا غش فيه"
ـ من أين تعرفني؟
ـ قبل أن دعاك فيلبس وأنت تحت التينة تقرأ في نبوة إشعياء، رأيتك.
ـ يا معلم. أنت ابن الله! انت ملك إسرائيل!
ـ هل آمنت لأني قلت لك: إني رأيتك تحت التينة؟ سوف ترى أعظم من هذا!
منذ أن عاد من بيت عنيا حيث كان تعمد على يد المعمدان، ظل يسوع هو يقضي أوقاتاً طويلة في الصلاة لله وكان كل صباح يستيقظ والظلام باقي ويذهب إلى بحر الجليل ويصلي هناك. لقد اصبح يسوع يتواصل مع الله بوضوح كابن مع أبيه. هذه الومضات التي كانت تأتيه في الطفولة تحولت منذ المعمودية إلى حلول كامل لله فيه، لذلك تعود أن يتكلم عن الله كأبيه ببساطة من يتكلم عن أب أرضي من لحم ودم. هذا كان يسبب له انتقادات كثيرة. فاليهود يتكلمون عن أبوة الله ولكن ليس بهذه الصورة الحميمة، يؤمنون أنهم يتكلمون مع الله في الصلاة ولكن ليس بهذه الأريحية التي كان يتكلم بها يسوع ويدعوه "آبا" ــ أي "بابا" باللغة الآرامية الدارجة التي لم يكن اليهود يستخدمونها أبداً للصلاة أو الكلام عن الله.
الله بالنسبة لليهود متعال جداً لا يمكن التباسط معه أو الكلام ببساطة عن محبته وأبوته، فهو ليس كمثله شيء وحرام تشبيهه بالأب. ويسوع أيضاً كان كيهوديّ يفهم ويدرك أن الله متعال ومتسام فوق كل تشبيه بشري، لكنه كان أيضاً يؤمن أن ذلك المتسامي المتعالي قد قرر بحريته الكاملة التنازل و التواصل الحميم مع البشر دون أن يفقد تعاليه وتساميه وأصبح يسوع، منذ معموديته وتجربته في البرية، على يقين أنه شخصياً هو محور هذا الاتصال وبؤرته.
وذات يوم كان يتمشى على بحر الجليل فأبصر عن بعد بعض الصيادين الذين اختاروا هذا الموعد الباكر ليفاجئوا السمك قبل أن يستيقظ. وضع يسوع حافة يده اليمنى فوق حاجبيه وهو يحاول أن يرى في مواجهة الشمس التي لم تزل منخفضة لتواجه من ينظر إلى الأفق. دقق يسوع النظر لكي يتحقق من هويتهما فأدرك أنهما سمعان وأندراوس. لم يكن يسوع قد رآهما منذ رحلة بيت عنيا، ولكنه لم يكن يكف عن الصلاة والدعاء من أجلهما ومن أجل فيلبس ونثنائيل أيضاًز منذ لقاءهم وهو يدرك أن لله خطة عظيمة في حياتهم لكنه كان يعلم أنهم لم يكونوا بعد مستعدين لاستقبال هذه الأمور وفهمها.
صاح يسوع
ـ يا رفاق.. أنا يسوع كيف حالكم؟
ـ المعلم؟!
هرع سمعان وأندراوس يجدفان بكل قوتهما حتى وصلا إلى الشاطئ حيث كان يقف يسوع ثم نزلا واحتضن الثلاثة بعضهم البعض.
ـ لقد افتقدتكما يا رفاق منذ وقت بيت عنيا، كيف حالك يا .. بطرس!
أجاب سمعان وقد بدأ كلامه باسماً، بسبب تذكير يسوع له باسم "بطرس" ثم تحول كلامه تدريجيا إلى الجِد.
ـ ونحن أيضاً أيها المعلم، لم نتوقف عن التفكير فيك وفيما قلته عن مملكة الله. كنا دائماً نظن أن مملكة الله هي إقامة شرع الله وإصلاح الدنيا بالدين وما يستلزمه ذلك من تغيير للحكومات والممالك، لم نسمع من قبل ما قلته عن أن مملكة الله هي مُلك الله على القلوب.
قال أندراوس
ـ نعم يا سمعان هذا منطقي، فبدون حكم الله على القلوب لن يكون هناك تغيير. التغيير يبدأ دائماً من الداخل وليس من الخارج. لكن ما معنى أن يحكم الله القلب؟ كل من حولنا يفعلون ما يفعلون ويقولون أنهم يفعلون هذا لوجه الله، وأن الله يحبهم ويسكن في قلوبهم! أين الحقيقة؟
ـ من ثمارهم تعرفونهم يا أندراوس. الثمار هي ما يخرج من الشجرة رغماً عنها. لا تستطيع شجرة التين أن تثمر شوكاً ولا تستطيع الأعشاب الشائكة أن تثمر تيناً مهما حاولت. لا يجتنون من الشوك عنباً ولا من الحسك تيناً. تابع الإنسان. تابع أقواله التي يقولها في لحظات الغضب حين يقع عنه قناعه. تابع الإنسان في حياته الشخصية وليس فقط في كلامه. تابعه في علاقته بالجنس. تابعه في علاقته بالمال. الجنس والمال يكشفان الإنسان. من يقول أن يحقق إرادة الله ولا يستطيع ضبط محبته للمال أو شهواته الجنسية فأغلب الظن كاذب أو مضلل.
ـ لكننا يا معلم نصارع مع رغباتنا الجنسية ونقاومها ونسقط فيها أحياناً، ونحن بأمانة أيضاً نحب الله ونريد أن نرى ممكلته تتحقق في قلوبنا وفي العالم من حولنا. هل ترانا كاذبون أو مُضللون.
ـ بالطبع لا، أنت يا سمعان تصارع رغبتك الجنسية ولا تستسلم لها. تقع فيها أحياناً، لكنك تقوم وتواصل. لكن من أقصدهم هم الذين يستسلمون لشهواتهم معطين لها شرعية باستخدام تشريعات دينية أو حركات سياسية أو حقوقية كلها في النهاية تصب في تحقيق شهواتهم التي لا تنتهي. احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان، ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة!
ـ مثل هيرودس الذي أحل لنفسه الزواج من زوجة أخيه فيلبس و هو حيّ مستخدماً السلطة والدين.
ـ ليس هيرودس فقط ولكن الكثيرين في الماضي والحاضر و سيكونون في المستقبل. لكن كما قال المعمدان، سوف يأتي وقت حين يوضع الفأس على أصل الشجر وكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً ستقطع وتلقى في النار.
ـ وقال أيضاً أنه يعمد بماء للتوبة لكن سيأتي بعده من سيعمد بالروح القدس ونار. وهذا الشخص هو أنت يا يسوع. لقد قال عنك أنك أنت حمل الله الذي سيرفع خطية العالم.

ـ هيا يا أندراوس وأنت يا سمعان. دعونا نحتسي بعض القهوة ونواصل حديثنا فأنا قد اشتقت كثيراً للحديث معكما.
وصل يسوع وسمعان وأندراوس إلى قهوة صغيرة على ضفاف بحيرة الجليل، كان الصيادون يجلسون فيها للراحة واحتساء القهوة والشاي وبعضهم يقوم بإصلاح الشباك. و بعدما جلسا وطلبا القهوة والشاي. قال يسوع لهما:
ـ هلما ورائي ننادى بملكوت الله!
قال أندراوس
ـ ننادي بملكوت الله؟ ماذا تقصد؟
ـ أقصد أن تتركا صيد السمك وتتفرغا معي للدعوة.
ـ أنا موافق! قال سمعان بطرس بحسم. أنا أفكر في هذا منذ أن تقابلنا في بيت عنيا وبصراحة منذ أن عمّدني يوحنا وأنا أشعر بشيء غريب. بالرغم من أنني أصطاد السمك مع أبي منذ الطفولة، إلا أنني منذ وقت المعمودية وأنا أشعر كلما خرجت للصيد أنني أضيع وقتي فيما هو ليس عملي الحقيقي. ما تقوله الآن يا يسوع هو كلمة الله التي كنت أنتظرها.
ـ هي بالفعل كلمة الله يا بطرس!
ـ وأنا أيضاًَ معكما!
بعد دقائق قليل اقترب منهما شابان يافعان فحياهما سمعان وأندراوس
ـ أيها المعلم، هذا يوحنا ابن المعلم زبدي صاحب أسطول الصيد الشهير في الجليل، وهذا أخوه يعقوب، وهم شركاؤنا.
ـ أعرفهما. أهلا أيها الاخوة أنتما أيضاً ستتركان الصيد وتصبحان تلاميذي!
فتح سمعان وأندراوس فاهما حين سمعا ما قاله يسوع بهذه الطريقة المباشرة، بل وازدادت دهشتهما عندما فوجئا بالصياديين الثريين يوحنا ويعقوب وهما يقبلان دعوته! وهكذا أصبح ليسوع ستة تلاميذ، الأخوان بطرس وأندراوس وفيلبس ونثنائيل وابني زبدي يوحنا ويعقوب.

4
كانت الشمس قد جلست مستريحة في عرشها في كبد السماء ترسل أشعتها القوية في ظهر هذا اليوم من شهر إبريل الربيعي والذي اختاره يسوع ليسافر إلى كفر ناحوم. كان مدخل كفر ناحوم لا يكاد يرى من سحب الغبار التي تخلفها وراءها سيارات التوك توك التي تتسلق المرتفعات الترابية للشارع الرئيسي المؤتدي إلى كفر ناحوم بعد أن قررت البلدية شق بطنه بالطول لتغيير مواسير المجاري والتي ظهر بعضها رابضاً على جانبي الشق الهائل كديناصورات ضخمة سوداء من الفخار المطلي بطبقة سوداء من الدهان. راحت بعض سيارات التوك توك تأخذ طريقها إلى قلب المدينة بينما تجمع عدد كبير من هذه السيارات الصغيرة السوداء والبنية الداكنة عند الموقف الواقع في بداية الشارع كمجموعة من الذباب تتجمع حول فم طفل صغير مريض كآلاف الأطفال الذين تذخر بهم كفر ناحوم.

كفر ناحوم بلدة صغيرة تقع على الشمال الغربي من بحر الجليل وتبعد أكثر قليلاً من ميلين عن بيت صيدا وهي تقع على ما يُطلق عليه "طريق البحر" وهو الطريق الممتد من دمشق إلى بتوليمايس و قد أعطاها هذا الموقع أهمية استراتيجية وتجارية كبرى. وكحال المدن الساحلية التي يتشغل أهلها بالتجارة، لم يكن لشعب هذه المدينة اهتماماً كبيرا بالأمور الروحية. وبالرغم من وجود مجمع يهودي كبير بها، وبالرغم من أن شعبها كان يؤدي كل الفروض الدينية إلا أن قلوبهم لم يكن بها أي شوق لمعرفة الله.

بدأت لافتات الانتخابات المكتوبة غالباً باللون الأحمر تظهر في كفر ناحوم وتتكاثر مثلما تتكاثر البثور الحمراء ذات الرؤوس الصديدة البيضاء على وجه مريض بنقص المناعة. ولم تعد تظهر الأشجار وأشكاك الكهرباء بسبب الملصقات المليئة بالكلمات الرنانة والوعود البرّاقة وصور المرشحين الذين تطل وجوههم بجدية وصرامة بالغة والكثيرون منهم لا تدري لماذا تشبه صورهم
كثيراً الصور التي تأتي في صفحات الحوادث بالصحف اليومية!
بالطبع النسبة الأكبر من اللافتات من نصيب مرشح الحزب كبير التجار شمعي بن برخي، الذي هو أيضاً رئيس الغرفة التجارية و نادي كفر ناحوم الذي ينافس كبرى أندية أورشليم العاصمة في الدوري اليهودي. أما رئاسة مجلس المدينة فهي من نصيب ابنه الأكبر رأوبين بين برخي ومديرية الأمن يرأسها الابن الأوسط داود بن برخي في حين لم يرد الابن الأصغر شمعون الانخراط في سلك الوظائف الرسمية واكتفى بإدارة شركة برخي تورز السياحية.

نزل يسوع وتلاميذه ومنهم بطرس وزوجته ضيوفاً في بيت حماة بطرس في كفرناحوم وبمجرد وصولهم ذهب يسوع عادة إلى مجمع البلدة وصار يعلم. فبهتوا من تعليمه لأنه كان يعلم كلام الله كمن هو صاحب الكلام فيدخل إلى المعنى مباشرة ويلمس القلوب. لقد كان يسوع يدخل بكلام التوارة إلى قلب الإنسان كمن هذا الكلام كلامه وكمن يعرف قلب الإنسان الذي يستقبل الكلام.

فصرخ واحد من الجمع قائلاً

ـ ما لنا ومالك أيها الناصري؟ أن أعرف أنك أنت القدوس المعين من الله. أعرف أنك الوحيد المولود من الله بلا أب بشري، والوحيد الذي بلا خطية منذ الولادة إلى الممات لكننا مع ذلك لا نريدك!
ـ لست أنت الذي تتكلم وإنما الشيطان الذي بداخلك. وله أقول أخرس. وله أقول أيضاً أن يتركك لتستطيع أن تؤمن بما تعرف أنه الحق!

ولما خرجوا من المجمع وكان اليوم سبت ذهبوا إلى بيت حماة بطرس في كفر ناحوم فوجدوا حماة بطرس مريضة بحمى غريبة أصابتها منذ أسابيع ولم تفارقها. فدخل يسوع إلى غرفة نومها.

ـ ما بك يا خالة يوكابد؟

ـ لا أدري يا بني؟ هل أنت يسوع صديق سمعان؟ يبدو من مظهرك أنك رجل دين
ـ فراستك واضحة يا خالة.
ثم قال باسماً
ـ كيف لا تعرفين ذلك واسمك يوكابد على اسم والدة النبي موسى.

ضحكت الخالة يوكابد. وابتسم يسوع ومد يده ووضع يده على جبهتها. ظنته الخالة يوكابد يجسها ليعرف شدة حرارتها، ولكن بمجرد أن مد يسوع يده ولمس جبهتها، فارقتها الحمى حالاً. ومد لها يده وأقامها من فراشها.

ـ ما هذا؟ أشعر بقوة غريبة في جسدي. لقد عدت أفضل مما كنت. مجداً للرب. أنت بحق نبيّ أيها المعلم الصالح. قامت الخالة يوكابد يملؤها النشاط وأخذت تعد وليمة ليسوع وأمه مريم وتلاميذه وقضى الجميع أمسية جميلة يأكلون ويضحكون.

سرى خبر شفاء حماة سمعان في البيوت المجاورة كما تسري النار في أعواد الذرة الجافة التي يجمعها أهل هذه المدينة الريفية فوق أسطح منازلهم كمخزون استراتيجي للوقود. وأغلب بيوت كفر ناحوم المتواضعة مبنية من الطوب الذي أتقنوا صناعته وخبزه كما كان أجدادهم يفعلون في مصر منذ مئات السنين. فأتوا بعد غروب الشمس، أي بعد انقضاء السبت، ومعهم كل المرضى والسقماء والذين تعذبهم أفكار شريرة ولا يستطيعون التحكم في أنفسهم، والذين شخصياتهم منقسمة ومفككة.

واجتمعت المدينة كلها عند الباب. فشفى مرضى كثيرين وأعاد السلام لقلوب كسيرة. ومنذ ذلك الحين كان على التلاميذ أن يعملوا بجد لتنظيم خدمة يسوع وإلا فلن يحصل على أي راحلة أو يأكل أي طعام لأن كل الناس في كل المنطقة كانت تريد أن تأتي إليه فكل مريض كان يلمس يسوع كان يشفى مباشرة!

أوشك الأسبوع الأول من شهر نيسان (إبريل) أن يقترب من نهايته ي في السنة الحادية والثلاثين لميلاد يسوع. اقترب الفصح، وهذا هو الفصح الأول ليسوع بعد تركه لمهنة النجارة وتفرغه للخدمة الروحية فقرر أن يصعد مع تلاميذه إلى أورشليم لحضور العيد.
ترى ماذا سيحدث في أورشليم في أول عيد فصح للمسيح. هذا ما سنتابعه في الحلقة القادمة من مملكة الله.
 
google-site-verification: google582808c9311acaa3.html