الأربعاء، ٢ سبتمبر ٢٠٠٩

يسوع واليهود في أورشيم



بدأ الربيع يبعث الدفء في أنحاء الجليل بعد شتاء قاسي. بدأت أغصان الأشجار الجافة العارية تخرج براعم غضة زاهية الخضار تداعبها ريح الفجر الربيعي فتتأرجح كأطفال فطيمة تبدأ في تعلم المشي في خطوات متأرجحة سريعة ثم لا تلبث أن تتعثر وتسقط لكن إرادة الحياة تدفعها من الداخل لمواصلة المحاولة. خرجت العصافير من أعشاشها مع الصباح الباكر تحتفل بالدفء والنماء. وأصواتها التي تشبه مجموعة صفافير في أوركسترا هائلة بلا قائد، ترصع سماء الفجر الجليلي الطازج. الأسبوع الأول من شهر إبريل (نيسان). الفصح يقترب. وهو الفصح الأول ليسوع بعد تركه مهنة النجارة وانخراطه في الخدمة الروحية المتفرغة هو وتلاميذه.
كان يسوع معتاداً أن ينزل مع أمه مريم ويوسف واخوته للعيد كل سنة، و ذات مرة عندما كان في الثانية عشر لم يعد معهما للجليل ومكث في أورشليم. أما أبواه فلم يعرفا وظنا أنه معهما في القافلة العائدة للجليل يلهو مع الأطفال. وبعد مسيرة يوم كامل شعرا ببعض القلق.
ـ يوسف. أين يسوع؟ غريب أنه لم يأت ليبيت معنا في الخيمة
ـ لا تقلقي يا مريم، لعله بات مع سمعان والصبية الآخرين يلهون. أنت تعلمين لقد صار الآن مراهقاً. يجب أن نعطيه مساحة من الحرية.
ـ أنا قلقة يا يوسف. أنت تعرف. ليس هذا طبع يسوع. سأذهب لأفتش عنه
ـ سآت معك
ولما لم يجدا يسوع في القافلة مطلقاً، قررا العودة إلى أورشليم ومعهما بعض الرجال للبحث عن يسوع في أورشليم وظلا يبحثان في كل مكان وعندما غابت شمس اليوم الأول ولم يجداه استجرا غرفة في خان صغير لقضاء الليل وفي الصباح يواصلا البحث عن يسوع و لم يستطع أي منهما أن ينام هذه الليلة...

ـ ما لك يا مريم. هل تبكين؟
ـ ألعل هذا هو السيف الذي قال سمعان الشيخ أنه سيجوز في نفسي؟! ثم كيف يختفي يسوع هكذا؟ وأين الوعود التي صاحبت ميلاده؟ ألعلها كانت تهيؤات. ألعلها أمانينا نحن بالخلاص!
ـ اهدئي يا مريم.. سوف نجده.
ـ أين نجده لقد فتشنا أورشليم كلها. لماذا يعطيني الله ابناً بدون رجل، ثم يأخذه هكذا قبل أن يصير رجلاً؟
ـ نامي الآن وفي الصباح نجده بإذن الله.

أشرقت الشمس على أورشليم وهي تسيل بقوافل الحجيج النازلة من الهيكل المرتفع مغادرة المدينة المقدسة في جميع اتجاهات فلسطين ومنها من كان مقصده إلى أبعد كثيراً. يتنفس سكان أورشليم الصعداء بعد الزحام الرهيب الذي يعانون منه طوال الأسبوعين الأولين من شهر أبريل من كل سنة.

ـ لم يبق إلا الهيكل. هيا نذهب يا يوسف
ـ من غير المعقول أن يكون يسوع في الهيكل. أنت تعرفين أن الكهنة لا يسمحون لأحد بالبقاء في الهيكل بعد انتهاء مناسك الحج، فكم بالحري الأطفال.
ـ لا أعلم. قلبي يقول لي أنه في الهيكل.
ـ لنذهب على أي حال
دخل يوسف ومريم إلى الهيكل حيث كان اللاويون خدام الهيكل يقومون بنشاط بتنظيف الساحة الخارجية من دماء وبقايا الأضحيات قبل أن تتعفن. وحول أحد الأعمدة كانت مجموعة من الكهنة مجتمعة وكان يبدو عليهم الاهتمام كما لو كانت بينهم مناقشة حامية.
ـ مولانا. أليست الوصية الأولى في التوارة هي «اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ» كيف يقول داود في المزمور المائة والعاشر: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: «اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ»؟ من هو "الرب" ومن هو ذاك الذي يدعوه داود "ربي"؟!
صمت الكهنة أمام سؤال كهذا يسأله صبي عمره لم يتجاوز الثانية عشر...
ـ لا تسأل عن هذه الأشياء يا فتى. أنت أصغر من أن نشرح لك هذه الأشياء. ثم.. ثم.. ثم لا تسأل عن أشياء من الممكن أن تزعزع إيمانك. اعرف شيئاً واحداً أن الله واحد واحفظ الوصايا. هيا. انصرف الآن.
ـ أعلم أن الله واحد. لكن.. آسف إن كنت قد أزعجتك يا مولاي.
خرج يسوع من وسط جماعة الكهنة فأبصره أبواه فجريا واندفعا نحوه واحتضناه وبكيا.
ـ يا بنيّ. لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوذا أبوك وأنا كنا نبحث عنك معذبين!
ـ لماذا كنتما تبحثان عني؟ ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في بيت أبي؟
ـ ما هذا الذي تقوله؟ بيت أبيك في الناصرة. هل اشترى أبوك بيتاً في أورشليم؟! هل ستعود للكلام الذي لا نفهمه!
ـ أنا آسف يا أمي. سامحني يا أبي. لقد كنت أصلي ونسيت نفسي. إنني في الهيكل أشعر بشيء غريب. أشعر أن هذا مكاني وبيتي ولا أشعر أنني أحتاج لأن أذهب لأي مكان آخر. سامحاني
ـ وهل لم تخف لأنك لم تجدنا
ـ أنا آسف. لم أخف!
مضا يوسف ومريم مع الرجال الذين أتوا معهم وكان يسوع يمشي وحده وراءهما وذهنه شارد في اشياء يفكر فيها ولم يقلها لأحد.
ـ هل تعلمين؟ مرات أشعر أن هذا الولد ليس منا. إنه ليس مثلنا. وكأنه ابناً لشخص ليس من جنسنا!
ـ هل ستعود للشك يا يوسف؟
ـ لا يا مريم. أنا أصدقك. لقد ظهر لي ملاك الرب في رؤيا وقال لي عن حملك أنه من الله. لكنني لا زلت لا أفهم لماذا؟ لماذا يفعل الله هذا؟ هذا لم يحدث من قبل؟ وفي بعض الأحيان أحتار. أنا واثق في شرفك، لكن في بعض الأحيان أحتار، فأقرر أن أنسى الأمر وأتجاهله.
ـ حتى أنا، أحياناً أشك. لقد قال لي ذلك الرجل الذي كان يشبه الملاك أنه سيدعى "ابن العليّ" لكني لا أعلم كيف يكون إنسان ابناً لله! لقد ظننت فقط أنه سوف يكون مباركاً وتقياً. لكن يسوع ليس مجرد صبي متدين. بل به شيء غريب! في بعض المرات، حتى أنا، أشعر أنه ليس ابني. صحيح أنه يخضع لي ويطيعني. لكنني في مرات كثيرة أشعر كما لو كان هو الكبير وأنا الصغيرة!
يضحك يوسف ثم تخفت ضحكته وتتحول ملامحه للجد.
ـ تصوري. أنا أيضاً أشعر بذلك أحياناً!

إنه الآن أول عيد فصح بعد تمام يسوع الثلاثين وتفرغه للخدمة وانتقاله لكفر ناحوم. وهاهو يسوع ينزل إلى أورشليم للمرة الأولى بعد أن صار رسمياً رجل دين وانضم إلى طائفة الكتبة وهي طائفة معلمي الناموس والأنبياء.
ترى ماذا سيحدث في أول زيارة ليسوع وتلاميذه لأورشليم. هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة من "مملكة الله"

هناك تعليقان (٢):

كنت مثلية و الآن مشفية يقول...

اسلوب فى السرد رائع جدا و اختيار دقيق لكل لفظ ووصف .. لا شك انك اديب محنك. اعجبنى جدا وصفك لحالة الجليل فى بداية المقال كأنك تنقلنى للعيش هناك بينما انا فى مكانى أقرأ هذه السطور.
و الامر الآخر انسانية المسيح و هو طفل، تصور رائع لعائلة بسيطة تعيش فى هذا الزمن و تحدث معاها كل هذه الامور العجيبة.
مرة آخرى اهنئك على اسلوبك الادبى المتميز و فى انتظار الحلقة القادمة بفارغ الصبر فلا تتأخر علينا بعد هذا التشويق الذى تختم به كل حلقة.

راما يقول...

عندما تدب الحياة في شخصيات مثل مريم ويوسف في حوار إنساني قد يدور بين أي زوجين أو شخصين يلفت نظر القارئ إلى أبعاد جديدة في الأحداث ... أسلوب جميل ومشوق
ربنا يباركك
حياة

 
google-site-verification: google582808c9311acaa3.html