الجمعة، ٣ سبتمبر ٢٠١٠

أين إيمانكم؟

13
بعد معجزة المشلول كانت جموعاً أكثر تجتمع حول يسوع متى ذهب في أي مكان وذات مرة عندما اجتمعت جموع كثيرة حول يسوع وكان يريد أن يستريح قليلاً، أمر تلاميذه بأن يأخذوا سفينة صغيرة يستقلونها في بحر الجليل حتى يستطيع أن ينام قليلاً. كانت الطريقة الوحيدة للهرب من الجماهير للحصول على قسط قليل من الراحة هي النزول إلى البحيرة. وبعدما دخلوا إلى العمق بدأت الأمواج ترتفع وتتلاعب بالسفينة. حاول التلاميذ التحكم في الموقف ولم يفلحوا، و بدأوا يشعرون بالخوف.
قال أندراوس
ـ سمعان، لنوقظ المعلم، لنخبره بما يحدث
قال يوحنا
ـ لقد صارت له ثلاث ليال لم ينم يا أندراوس، لذلك لم يشعر بما يحدث، حرام علينا أن نوقظه الآن.  لكننا سوف نغرق كلنا نحن وهو.  لعله يستطيع أن يفعل شيئاً. اذهب يا يوحنا أنت وأوقظه.
  ـ  أنا غير موافق يا سمعان، لكن لكونكما هكذا خائفين، سوف أوقظه.
  ذهب يوحنا فأيقظ يسوع
  قام يسوع وهو يفرك عينيه.
 فقال بطرس: أما يهمك أننا نهلك؟!
فرد عليه يسوع:
  ـ ما بالكم هكذا خائفين يا قليليّ الإيمان؟ أين إيمانكم؟ ألا تعرفون أن الله قادر أن يسكن البحر ويوقف الأمواج. ألم تقرأوا المزمور القائل أن الله متسلط على كبرياء البحر وعند ارتفاع لججه هو يسكتها. وألا تعرفون أن الله يحبكم ويريد أن يفعل ما تطلبونه. وإن لم يفعل وغرقتم، من قال أنكم إذا غرقتم تهلكون. من يؤمن بالله لا يموت. فالله ليس إله أموات بل الجميع أحياء عنده.
ثم وقف يسوع على المركب وهو يمسك بالحبل الذي يربط الشراع وهو يكاد يقع من فرط تمايل السفينة، وصاح في البحر.
ـ اسكت. ابكم
فهدأ البحر تماماً وصار كبركة ماء.
تعجب التلاميذ حيث أن يسوع لم يصل لله طالباً منه أن يهدئ البحر، بل تكلم إلى البحر مباشرة. وقالوا: من هذا؟ إن الطبيعة تطيعه كما يطيع الطفل الصغير أباه المحب!

عندما عاد يسوع وتلاميذه إلى كفر ناحوم، كانت المعركة الانتخابية حامية الوطيس. فبالرغم من أن السيد شمعي قد حصل على ترشيح الحزب الثمين، وبالطبع ليس بلا مقابل، إلا أن بعض من أعضاء الحزب الحاكم الذين كانوا طامعين في الترشيح ولم يحصلوا عليه رشحوا أنفسهم مستقلين أمام شمعي وبدأوا في الإنفاق ببذخ على حملاتهم الانتخابية.  وهم يعرفون ويعرف شمعي أيضاً أنهم إذا كسبوا الانتخابات سوف يعودون للانضمام للحزب، وسوف يكون رجوعهم ليس فقط مقبولاً وإنما محتفى به باعتبارهم قد نجحوا في الانتخابات ضد مرشح الحزب، مما يعني أن لهم ثقل في الشارع السياسي، ولذلك تركت الحكومة التنافس بينهم حراً بينما بطبيعة الحال ضيقت الخناق تماماً على المرشحين الآخرين الذين لا ينتمون للحزب.
الجدير بالملاحظة أن الشعب كان خارج هذه اللعبة تماماً لوعيه التام بأن الأمر محسوم مسبقاً وإن كان هناك صراع أو منافسة فكلا من الفائز والخاسر لم يخترهما الشعب. ولم يكن الشعب خارج الحياة  السياسية فقط بل كان خارج الحياة الروحية أيضا، فبالرغم من التدين  الشديد الذي يتميز به أهل كفر ناحوم إلا أن تدينهم لم يصنع أي فرق يذكر في أخلاقهم والطريقة التي كانوا يعيشون بها. فالسرقات منتشرة والفساد  يسري في كل طبقات المجتمع. الكذب كان هو القاعدة بالرغم من الأقسام الغليظة بالله العظيم وبالدين وبالهيكل الشريف في أورشليم. التشدق مستمر بالأخلاق والتقاليد اليهودية بينما التحرش الجنسي يملأ الشوارع ووسائل المواصلات، ولا تصل من حالاته للجرائد سوى الحالات الصارخة التي يتم فيها محاولات اغتصاب. أما التحرش بالكلام والاحتكاك واللمس العابر ومسك الفتيات والسيدات من مناطق حساسة ثم الفرار بالهرب جرياً على الأقدام أو على صهوة دراجة فكانت أمور يومية شبه عادية، وعلى النساء أن تتجرع يومياً مرارة القهر والهوان.

المدرسون يضربون التلاميذ حتى الموت في المدارس ويخرجون فيهم كل ما بداخلهم من إحباط بسبب "الكادر" الجديد وغلاء المعيشة والقهر السياسي والاجتماعي والجنسي الذي يعانونه. أما الشعائر الدينية فكانت كلها تتم في مواقيتها في الهيكل وفي زوايا الشوارع بكل حماس والتزام، فلم يكن يستطيع أحد المزايدة على تدين كفرناحوم. حتى يسوع الناصري، ذلك المعلم الجديد تبعته الجموع من كل مكان تستمع إليه كما تستمع إلى كل واعظ أو معلم جديد في المجامع أو على الفضائيات. 
كان يسوع يعلم أن كل هذه ليست سوى مظاهر فملك الله على القلب، كما كان يقول دائماً، يجب أن يترجم في الحياة كما تعلن الشجرة عن نوعها من خلال ثمرها. مهما قالت الشجرة أنها شجرة تفاح وهي لا تثمر إلا شوكاً، أفترى يصدقها أحد؟!
- متى صليت لا تكن كالمنافقين، فإنهم يحبون أن يصلوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع
 لكي يظهروا للناس، الحق أقول لكم أنهم قد استوفوا أجرهم، وأما أنت فمتى صليت فادخل إلى مخدعك واغلق بابك وصل لإبيك الذي في الخفاء.  فأبوك الذي في الخفاء يجازيك علانية.
- ومتى صمت  فلا تكن عابساً كالمنافقين، فإنهم يُعبِّسون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين. الحق أقول لكم أنهم قد استوفوا أجرهم. وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك لكي لا تظهر للناس صائماً، بل لأبيك الذي في الخفاء فأبوك الذي ير ى في الخفاء يجازيك علانية.
ـ نحن نعلم كيف نصلي ونصوم. فقط جئنا لكي ننظر معجزات. إن لم تكن هناك اليوم معجزات فقل لنا حتى ننصرف إلى أعمالنا.
ـ  ولماذا تريدون المعجزات؟
ـ نحن نريد أن نرى مجد الله!  نريد أن نتعزى ونرى إظهارات الروح بقوة، أما الكلام عن الصوم والصلاة فهذا نعرفه جيداً!
ـ جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تعطى له آية إلى آية يونان النبي، لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال.
ـ ها قد عدت للألغاز! من هو ابن الإنسان هذا؟ وما معنى أن يكون في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال، ثم ما علاقة ذلك بسيدنا يونان؟
وانصرف بعض من الناس ولم يعودوا يتبعون يسوع من ذلك اليوم فصاعداً.
أما يسوع فاستمر يتكلم وقاد زادت حدّة غضبه
ـ حسناً قال فيكم الله على لسان إشعياء النبي " هذا الشعب يكرمني بشفتيه أما قلبي فمبتعد عني بعيداً وباطلاً يعبدونني وهم يفعلون أشياء هي وصايا الناس! ثم انصرف ولم يرد أن يكمل تعليمه.


......إلى اللقاء في الحلقة القادمة من مملكة الله








14
في إحدى الفنادق الفخمة بالعاصمة أورشليم، أقيم اللقاء السنوي لجمعية جباة الضرائب والمحاسبين والمراجعين القانونيين اليهود، وجاء إليها جباة الضرائب من كل أنحاء المملكة. وجباة الضرائب كان يسميهم الشعب العشارون بسبب أنهم قد اتفقوا مع الحكومة على أخذ العُشر مما يجمعون أيما كان. ولذلك كانوا يبالغون في قيمة الضرائب ويجمعون ضرائب أكثر من المبلغ القانوني وكانت الحكومة تغض البصر وكان الجميع يستفيد، فيما عد الشعب الكادح بالطبع.  وللحصول على هذه المبالغ أعطت الحكومة سلطات واسعة لهؤلاء العشارين أن يصدروا قرارات بالمصادرة والحبس إذا لم يستجب دافعو الضرائب.
ـ زكا بن عميهود!     أنت كما أنت لم تتغير منذ كتاب المجمع في الجليل أهلا بك أيها القصير المكير!
ـ وأنت أيضاً يا لاوي بن حلفي لقد أسماك أبوك لاوي وأنت أبعد ما تكون عن خدمة الهيكل.  لقد فضلت بدلاً منها خدمة النظام أيها الفاسق !  قال زكا ضاحكاً وهو يحتضن لاوي، وضحكا الاثنان بصوت عال.
ـ أين انت الآن يا زكا؟
ـ أنا رئيس عشاري أريحا
ـ منصب مهيب. لكنك تستحقه يا زكا، فأنا لم أرى من هو مثلك في دقته والتزامه في العمل.
ـ لكن الحقيقة أنني مؤخراً أصبحت غير مقبل على أي شيء في الحياة. لعلها أزمة منتصف العمر كما يقولون!
ـ كيف يا زكا؟
ـ لدى زهد غريب في المال والجاه، وأتساءل في نفسي إن كان هناك معنى للحياة أعمق من هذا. لقد حققت كل شيء في الحياة المال والنجاح والجاه والاحترام من الناس. لكنني لست سعيداً.
ـ معك حق يا زكا. هذا تماماً ما أشعر به هذه الأيام.
ـ أسمعت ما يقوله يسوع الناصري عن المال؟
ـ لا يا زكا لم أسمع ماذا يقول؟
ـ يقول: "لا يقدر أحد أن يخدم سيدين، فإما أن يخدم الإنسان الله أو يخدم المال"
ـ لقد حاولت لسنين عديدة أن أجمع بين الله والمال،  لكنني لم أستطع لقد انتصر المال في النهاية واصبحت أحسب كل شيء من منظور المكسب والخسارة وما هو الاستثمار الأفضل، في البورصة أم في العقارات أم في شراء الذهب والمجوهرات. ومنذ بدأت المضاربة في البورصة، أصبح لي هم واحد في الحياة هو متابعة ارتفاع وانخفاض الأسهم والسندات حتى أصبحت حتى أنني أدمنت هذا الأمر  وصرت عبداً له.
ـ وعندما تضاف السلطة إلى المال يصبح الإدمان أشد وأقوى. على أي حال يا لاوي يا صديقي عندما أفكر بهذه الطريقة أصل إلى طريق مسدود. أنا أيضاً كما تعرف كنت أبحث عن الله في شبابي لكنني سئمت من المجامع وأهل المجامع وكرهت نفاق الدين  و التدين الذي أراه في كل مكان. إن كان الله هكذا فأنا لا أريده!
ـ نعم فلا نرى من هؤلاء المتدينين إلا التعصب والكراهية. دعني أقص عليك ما حدث لي منذ أسبوعين. شعرت ببعض الحنين لسماع التوارة فذهبت إلى المجمع باكرا جدا وجلست في أحد الأركان لئلا يراني أحد. كنت متشوقاً أن أسمع التلاوة. وما أن هم الشيخ بأن يبدأ بالتلاوة حتى رآني فتوقف ونزل من على المنبر وجاء إلي وقال لي: " أنت غير مرغوب فيك هنا!" أنت تفسد على الناس صلاتها وتنجس المكان! ألست لاوي بن حلفي العشّار؟  قلت له: بلى أنا هو!  فقال: اخرج في صمت لئلا أخرجك بالقوة ويصير منظرك سيئاً أمام الجميع! لك أن تتخيل كيف كان شعوري وأنا ألملم أشلاء كرامتي المبعثرة وأخرج من المجمع.
ـ تباً لهؤلاء المعلمين!  أنت يا لاوي لا يزال لديك حنين للمجامع ولسماع تلاوة التوراة أما أنا فقد انتهيت من هذا الأمر. لقد كرهت التوراة وكرهت الدين. إنني أرى أن الرومان أكثر احتراماً من أهلنا المنافقين، على الأقل هم لا يدّعون التدين ويمارسون كل ألوان الرذيلة في الخفاء.

بدأت أولى جلسات المؤتمر وكان المتحدث أحد رجال الحزب الحاكم وكانت عن " أساليب جديدة لتنمية موارد الدولة في عصر الرأسمالية والسوق المفتوح." جلس لاوي وزكا يستمعان للمحاضرة بأذنيهما لكن حملاً ثقيلاً كان جاثماً على قلبيهما لم يعرفا حتى اسماً له.

جلس يسوع و تلاميذه الستة، الأخوان سمعان وأندراوس والأخوان يعقوب ويوحنا ابني زبدي مع فيلبس وبرثلماوس (المدعو نثنائيل)  على المائدة الكبيرة في مطبخ بيت حماة سمعان بطرس في صباح أحد أيام شتاء كفر ناحوم البارد. اعتاد الجميع أن  يتناولوا إفطارهم معاً و هم يستعدون للانطلاق لبداية إحدى رحلاتهم إلى قرى الجليل.  كشفت النافذة الصغيرة لمطبخ حماة بطرس صراع الشمس وهي تحاول أن تثبت وجودها وتطل من خلف الغيوم الشتوية الكثيفة حتى يمكن أن يبدأ اليوم رسمياً.   كانت برودة الجو تجعل أنفاس الرجال والنساء تتحول إلى بخار يتصاعد من أفواههم ومن أكواب الشاي التي يحتسونها وهم يتبادلون أحاديث ضاحكة.  كانت زوجة سمعان بطرس وأمها بمساعدة مريم أم يسوع يأتين إليهم بأطباق الإفطار الشهية دون أن يتوقفن عن الاشتراك في الحديث وكن إذا ذهبن نحو الموقد، فقط يرفعن أصواتهن قليلاً ليتمكن الرجال الجالسون على المائدة  أن يسمعوا ما كن يقلنه  ويستمر الحديث بشكل طبيعي.

ـ يقول الناس لماذا لا يصوم تلاميذ يسوع أصواماً طويلة كما كان تلاميذ يوحنا يصومون.
ـ نعم يا خالة مريم نحن، كما تعرفين كنا من تلاميذ يوحنا وكنا نصوم أكثر مما نفطر، فبالإضافة ليومي الإثنين والخميس المعروفين في التقليد اليهودي،  كنا نصوم أصواماً طويلة تصل إلى الخمسين يوماً في بعض الأوقات وكنا خلال هذه الأيام نأكل فقط الطعام النباتي البسيط.

ـ لا أستطيع أن أنسى نظرات الدهشة وعدم الفهم على عيني يفتاح الفريسي عندما قال له يسوع أن بني العرس لا يصومون والعريس معهم.... لكن يا معلم، ماذا كنت تقصد بهذا الكلام؟
ـ عزيزي فيلبس، ليس أحد يخيط رقعة من قماش جديد على ثوب عتيق، فعندما يغسل الثوب سوف ينكمش القماش الجديد فيخرق الثوب.
ـ ماذا تقصد؟
ـ الدين ثوب عتيق. لقد كان وسيلة للتقرب إلى الله وفهم مقاصده قديماً. من خلال الدين أدرك الإنسان ما يريده الله وما يرفضه، وما هو الخير والشر. لقد كان الدين إعلاناً إلهياً بدائياً للإنسان كما يعلم الأب طفله الصغير. أما الآن فما يفعله الله في حياة البشر هو بمثابة قطعة قماش جديدة لا يمكن أن تخاط في نفس الثوب القديم. ألم تدركوا بعد ما أقوله دائماً أنه قد اقترب ملكوت الله؟
ـ نفهم أنك تقول أن نهاية العالم قد اقتربت لذلك علينا أن نتوب.
ـ بالطبع نهاية العالم تقترب كل يوم ولكن ما أقصده ليس ذلك بالتحديد.  إن ما أقصده أن الله قد اقترب من البشر كما لم يقترب من قبل. ما يفعله الله الآن بيننا هو أعمق من أي دين. إن الله نفسه يتواصل مع البشر وجهاً لوجه، يعلن عن حبه للجميع ويشفي القلوب قبل الأجساد ويهب الرجاء للجميع دون أن يفعلوا شيئاً إلا أن يؤمنوا ويقبلوا الملكوت الآتي.  هذا "ثوب" جديد من بر الله  يخيطه الله بنفسه ليُلبِسه لكل البشر.  ليس لمن يفعل شيئاً ليستحق هذا البر، ولكن لمن يقبل ويُقبِل ويصدق.  لا ينبغي أن نضيف لهذا الثوب الجديد  رقعاً من الثوب القديم، أو نضيفه كرقع جديدة نرقع بها الثوب القديم.  لقد أدّى الدين دوره وانتهى، وأي رجوع للدين بعد حلول مملكة الله هو بمثابة عودة للصورة بعد أن جاء الأصل.
صمت يسوع قليلاً ثم أضاف....
وإنا أقول لكم: طوباكم أيها الرجال والنساء لكونكم الآن ترون ما تمنى الأنبياء والأتقياء على مر العصور أن يروه. وها أنتم ترونه بعيون رؤوسكم.
ـ أنا لا أفهم شيئاً!
ـ لن تفهم ما أقوله الآن فهماً كاملاً،  ولكنك سوف تفهم فهماً أعمق فيما بعد يا بطرس!
ـ ولكنني بالفعل أشعر بحضور الله واقترابه كما لم أشعر من قبل!
ـ قبل أن يأتي العريس إلى العُرس لا يكون هناك فرح وإنما استعداد. المصابيح تملأ بالزيت لأنها سوف تضاء طوال اليل ويعد الموسيقيون آلاتهم ويُعَد الطعام والشراب. لا أحد يأكل أو يشرب أو يفرح بعد ولكن الكل تتعلق عيونهم بالطريق منتظراً موكب العريس. أليس هذا ما يحدث في أفراحنا؟
ـ بلى!
ـ ثم عندما يأتي العريس إلى العُرس يختلف كل شيء وكان عصراً جديداً قد بدأ وانتهى القديم.  تضاء المصابيح وتفرد الولائم، ويأكل الجميع ويشربون ويفرحون. ولكني أقول لكم أن العريس سوف يمضي وقتاً مع أحباءه ثم يسافر مرة أخرى لتبدأ فترة جديدة من الاستعداد وسوف يأتي ثانية في عرس أكبر وأبهى يمتد إلى أبد الآبدين.
ـ لازلت لا أفهم ما تقول يا يسوع، لكن حياة ما تدب في داخلي عندما تتكلم.
ـ هيا بنا فقد ظهرت الشمس تماماً وأصبح الطريق آمناً.

بعد الأفطار وقف الرجال السبعة  والنساء الثلاثة  ممسكين بأيدي بعضهم البعض في دائرة بينما كانت الشمس في الأفق قد استيقظت تماماً وبدت وكأنها واقفة معهم تصلي.

ـ أبانا الذي في السموات، ليكن اسمك مقدساً متسامياً فوق كل اسم،  ليأت ملكوتك فاتحاً ذراعه للبشر ويتحقق فيهم وبهم،  لتتحقق مشيئئك الكاملة في السماء،  هنا أيضاً على الأرض، مهما حاول  فساد الأرض أن يعطلها أو يؤجلها.   نشكرك على ما أكلنا. اللهم اعطنا واعط كل إنسان خبز يومه، واغفر لنا ما نرتكبه في حق الآخرين، كما نغفر نحن أيضاً ما يرتكبه الآخرون في حقنا. لا تدعنا ندخل في تجارب ونجنا من الشر والشرير، لأن لك الملك والقوة والمجد إلى أبد الآبدين آمين.


في الحلقة القادمة من مملكة الله سوف نتابع رحلة يسوع وتلاميذه 

الاثنين، ٢٣ أغسطس ٢٠١٠


11
بدأ يسوع يطوف كل قرى ومدن الجليل منطلقاً من كفر ناحوم فزار بيت صيدا وكورزين والكثير من قرى الجليل،  فيما عدا الناصرة،  وكان يعلم في مجامعهم وينادي بحلول مملكة الله. فذاع خبره في كل القرى والمدن المحيطة فكان الجميع يحضرون له السقماء والمرضى المصابين بأمراض وأوجاع مختلفة. المشلولين والمرضى النفسيين والعمي والصم والبكم وكان يشفيهم جميعاً فتبعته جموع كثيرة من الجليل ومن العشر المدن التي كانت تسكنها غالبية وثنية،  ومن أورشليم العاصمة ومن كل اليهودية ومن الأراضي الواقعة عبر نهر الأردن.
اشترى يسوع وأمه بيتاً صغيراً بالمال القليل الذي حصلا عليه من بيع بيتهم في الناصرة ودكان النجارة الخاص بيوسف الذي توفى منذ حوالي سنة.  وبجوار بيت يسوع اشترى سمعان وزوجته بيتاً آخر صغير. أما التلاميذ من غير المتزوجين فكانا ضيوفاً في بيت يسوع وبيت سمعان وكانوا جميعاً يعيشون معاً حياة شبه مشتركة ويطوفون مدن الجليل معاً ويعودون إلى كفر ناحوم لأيام قليلة بعدها ينطلقون في سبيل الله مرة أخرى.  وعندما كانوا يسافرون كانوا يقيمون في بيوت الناس في البلاد التي كانوا يذهبون إليها و يأكلون مما يقدم لهم أهل البلاد التي يزوروها. لم يحملوا ثياباً ولا  أحذية إضافية ولا فضة ولا ذهباً بل كانوا يقدمون خدمتهم وتعليمهم مجاناً.
وكان يسوع يخرج إلى الخلاء في البلاد التي كان يذهب إليها ويجتمع إليه الناس من كل مكان خارج البلدة لأن الشوارع الضيقة داخل تلك البلاد الصغيرة لم تكن تتسع للجموع التي تتجمع وتسير خلف يسوع من بلد إلى بلد. وكان دائماً ما يصعد إلى الجبال أو التلال ليعلم وتسمعه الجموع الملتفة حول الجبل أو يأخذ قارباً وينزل به إلى بحر الجليل وتتجمع الناس على الشاطئ ليسمعوه. وكان تلاميذ يسيرون حوله ليشقوا له طريقاً بين الجموع حيث كانت جموع الناس من مرضى وسقماء يجرون ويلقون بأنفسهم على يسوع لكي يلمسوه فيشفوا.
وذات يوم كان يسوع يعلم الجموع فأبصر رجلاً أبرص أكل المرض يداه وزحف على عينيه فأفقدهما البصر لكنه كان لا يزال يسمع.  فوقف خائفاً بعيداً عن الجمع لا يجرؤ أن يقترب لأن القانون كان يقضي ألا يقترب هؤلاء البرص من الناس لكي لا ينقلوا العدوى،  بل كانوا ينادون أثناء مشيهم في المدن.. أنا نجس! ... انا نجمس!  لكي يسمع الناس فيبتعدون.  وكان من ينسى أن يفعل ذلك يرجم.

عندما سمع هذا الأبرص بيسوع جازف بالاقتراب من الجمع وهو يقول خائفاً .... أنا نجس! .... أنا نجس! ....فلاحظ يسوع صراخه حتى أنه كان كاد يشوش على تعليم يسوع. فاجتاز يسوع بين الجموع حتى وصل إليه. فما كان من الرجل الأبرص إلا أن سجد إلى الأرض أمامه.
ـ  يا سيد إن أردت تقدر أن تطهرني
فمد يسوع يده إليه ولمسه
ـ أريد فاطهر
فذهب برصه في الحال
ـ  لماذا لمستني؟ كنت تستطيع أن تقول فقط أن أطهر فأطهر. أنا أعلم أنك تشفي بكلمة!
أجابه يسوع وهو يستمر في لمسه يديه المقروحتين وعيناه التي اغلقتها الأنسجة الليفية الناتجة من الالتهاب.
ـ نعم يا بني. جلدك يحتاج فقط لكلمة، أما قلبك فيحتاج للكثير من اللمسات.
بكى الأبرص واحتضن يسوع. فراح يسوع يربت على كتفه وشعره، ثم أمسك يسوع بكتفيه وأعاده للوراء ونظر إلى عينيه اللتان بدأتا تظهران من خلف الأنسجة الملتهبة كالشمس التي تظهر من وراء الغيوم.
ـ أنظر. لا تقل لأحد ولكن اذهب أر نفسك للكاهن وقدم القربان الذي أمر به موسى شهادة للشعب. وإن سألك أحد ما الذي حدث. قل شفاني الله!

عندما عاد يسوع إلى بيته في كفر ناحوم كان في إحدى الليالي نائماً عندما سمع قرعاً شديدا ًعلى الباب حتى كاد ينكسر، فقام وهو شبه نائم يحاول أن يفهم ما يحدث متحسساً طريقه في الظلام حتى وصل إلى المزلاج ففتحه وفي ضوء القمر بالخارج رأى زائر منتصف الليل هذا. لقد كان السيد شمعي بن برخي التاجر الكبير.
 مفاجأة!
ـ أهلاً يا سيد شمعي  خير.... ما الخطب؟
ـ أريد أن أتحدث معك أيها المعلم. لقد استئذنت من تلميذك الساهر عند الباب أن أتحدث إليك قليلاً. هل لي أن أدخل؟
ـ تفضل !
ـ أنا آسف لمجيئي في هذا الوقت، فأنت تعلم، لا أستطيع أن آت أثناء النهار. أنت تدرك بالطبع حساسية مركزي السياسي.
ـ نعم أدرك ذلك
ـ سوف أدخل في الموضوع مباشرة. أنت تعلم أني مرشح لعضوية مجلس الشعب عن دائرة كفر ناحوم.
ـ نعم أعلم
ـ وتعلم أيضاً أنني مرشح الحزب الحاكم، ولابد أن أفوز بهذه الانتخابات
ـ أعلم. وستفوز
ـ أنا أيضاً أدرك أن شعبيتك في كل الجليل فاقت كل تصور. وأنا أحترمك وأقدرك جداً. بل أنا أرى، وأرجو أن يكون رأيي هذا بيننا فقط، أنك بالفعل نبيّ عظيم وأن الله كما يقول العامة، قد افتقد شعبه بإرسالك لنا.
ـ باب التوبة مفتوح أمام الجميع، ولكن القليلون هم الذين سوف يدخلون من هذا الباب الضيق ويسيرون الطريق الصعب الصاعد لأعلى.
ـ لا افعم
ـ الباب ضيق والطريق كرب لأنه ضد شهوات الإنسان التي توحشت بسبب الانفصال عن الله،  أما الباب الواسع والطريق الرحب السهل فهو الطريق الذي يسير بعيداً عن الله نحو الهاوية.
بدا بعض الارتباك البسيط على وجه السيد شمعي، فحاول العودة مرة أخرى إلى الموضوع الذي جاء من أجله.
ـ باختصار ودون لف أو دوران. أنا أحتاج لشعبيتك لكي أفوز في الانتخابات. أريدك أن تظهر معي في الندوات واللقاءات. لا تحتاج لأن تقول شيئاً بل يرى الناس أنك معي ونلتقط بعض الصور التي نعلقها هنا وهناك. لن يكلفك الأمر شيئاً، بل ربما يكون مربحاً. أنت بالطبع تحتاج لبعض التبرعات للإنفاق على رحلاتك المتعددة في كل قرى ومدن الجليل.    قال شمعي هذا وهو ينظر نظرة تجعله يبدو كمن يدرك بواطن الأمور في كل مجالات الحياة.
ـ أنا أعلم أنك تظن أن تحتاج إليّ فقط للفوز في الانتخابات،  ولكن الحقيقة هي أن ما تحتاجه مني أكثر  وأهم بكثير من ذلك.
ـ لا لست أريد إلا النجاح في الانتخابات.
ـ أنا أعلم ذلك.  وسوف تنجح في الانتخابات بمساعدتي أو بدونها. أنت تبحث عن مملكة الأرض وسوف تحصل عليها. أما ما أهتم به أنا فهو أمر آخر. إنها مملكة الله التي تدوم إلى الأبد.
أيقن السيد شمعي أنه يتكلم لغة  أخرى غير التي يتكلمها يسوع، وبفطنة التاجر الشاطر،  تأكد أن الصفقة التي جاء ليبرمها لن تتم، فقرر أن ينسحب بهدوء وأناقة، كما أنه اطمأن لتأكيد يسوع له أنه سيفوز في الانتخابات فهي على أي حال كلمة من نبيّ.
ـ  طاب مساؤك أيها المعلم وأعتذر مرة أخرى على الإزعاج. أرجو أن تسامحني.
ـ  لا عليك. طاب مساؤك يا أخي. سوف أصلي من أجلك. لا للفوز في الانتخابات بل لما هو أهم من ذلك.

وفي طريق يسوع إلى فراشه، نادته مريم أمه
ـ  يسوع
ـ  نعم يا أماه، هل أنت مستيقظة؟
ـ  نعم.  أوقظني القرع على الباب
ـ  أعتذر يا أمي لما أسببه لك من إرهاق. عودي لنومك
ـ يا بنيّ أنا أشفق عليك. الحياة بهذه الطريقة ضرب من الانتحار. هوِّن عليك يا حبيبي.
ـ إنه وقت للعمل يا أماه. يجب أن أعمل عمل الذي أرسلني مادام الوقت مناسباً،.  يأتي بعده وقت  لا يستطيع أحد فيه أن يعمل.
ـ ليقوك الله يا ولدي!
ـ تصبحين على خير يا أماه.                
إلى اللقاء في الحلقة القادمة من مملكة الله









12
عاد يسوع إلى كفر ناحوم بعد رحلة تعليمية ودَعَوية في قرى الجليل. و كان أحد الرجال الموسرين في كفر ناحوم قد نظم جلسة تعليمية في بيته الكبير نسبياً دعا إليها الكثير من الفريسيين ومعلمي الناموس الذين قد أتوا من كل قرية من قرى الجليل واليهودية وأورشليم. وعندما عرف الناس بوجود يسوع في هذا "المؤتمر" فاجتمع جمع كبير في البيت وحوله فتوقف يسوع عن الجدل الفكري اللاهوتي مع الفريسيين ومعلمي الناموس والتفت للجموع المتزاحمين حول البيت، وبدأ يعلمهم كعادته بلغة بسيطة وباستخدام الأمثال.
-   يا إخوتي الدليل على أن التعليم من الله هو أنه يغير الحياة ويُصلح المجتمع. أما التعليم والدين والتدين الذي يظل قشرة جميلة تخفي تحتها كل الموبقات فهذا ليس سوى تخدير، والتخدير ليس من الله بل من إبليس. الله لا يُخَدَّر وإنما هو يُغَيِّر. الثمر الصالح يدل على صلاح الشجرة والثمر الفاسد ينبئ عن جذورها الفاسدة. وسيأتي يوم توضع الفأس على كل الشجر الفاسد فيجتث ويزرع الله زرعاً صالحاً يثمر ثمراً يدوم. فافحصوا إذاً أشجار حياتكم ومن ثمارها تعرفونها. لا تحاولوا أن تلصقوا ثماراً صالحة من أعمال بر وتقوى على شجرة فاسدة الجذور فسوف تسقط وتعود الشجرة إلى ثمارها. افحصوا أصل الشجرة وجذرها. اجتثوا الشجر الفاسد المزروع في الأرض المالحة وازرعوا شجرة حياتكم الجديدة في أرض خصبة نظيفة.
-        وكيف نعرف الأرض الخصبة من الأرض المالحة؟
-   الأرض الخصبة تعلن عن نفسها بالأشجار المثمرة الموجودة فيها. فإن كان الثمر ينبئ بصلاح الشجر فالشجر المثمر ينبئ بصلاح الأرض المزروع فيها.
فجأة ظهرت مجموعة من الرجال أحدثوا هرجاً ومرجاً حيث كانوا يزاحمون وسط الجموع محاولين أن يصلوا إلى يسوع وهم يحملون إنساناً مشلولاً وعندما لم يقدروا أن يخترقوا الجموع ليصلوا إلى يسوع انسحبوا بعيداً.
عاد يسوع لتعليمه..
_ لا تلتفتوا إلى ما يقوله الناس بل إلى ما يفعلونه. سوف تجدوا الكثيرين أصحاب كلام عذب وحلو وبليغ لكن أعمالهم لا تتوافق مع كلامهم. ابحثوا عن الحقيقة ولا تنخدعوا بمعسول الكلام!

فجأة سُمعَ صوت قادم من سقف البيت الذي كان "المؤتمر" منعقد به وأدرك الجميع أن أناساً قد تسلقوا الجدران وبدأوا يعبثون بالسقف. لم يصدق البعض لكن بعد دقائق كانت فتحة كبيرة قد أُحدِثت بالسقف حيث كان هناك أربعة رجال فوق السقف يزيلون بهمة عروق الخشب وأعواد الشجر والنخيل المصنوع منها السقف محدثين جلبة شديدة وعاصفة من التراب ملأت البيت وأعمت عيون الجموع.  تصايح الناس متذمرين ومهددين  وخرج صاحب البيت مسرعاً لكي يستدعي الشرطة الرومانية. أما هؤلاء الرجال الأربعة فلم يوقفهم شيء حتى أكملوا الفتحة الكبيرة في السقف، ولدهشة الجميع بدأوا يدلون من السقف سريراً مربوطاً بأربعة حبال يمسك به كل واحد منهم. وعندما تدلى هذا السرير المصنوع من عروق الخشب والحبال والمفروش بسعف النخيل وجدوا عليه رجلاً هازلاً ضامر العضلات زائغ العينين يبدو عليه أنه مشلول بلا حراك لسنوات طويلة.
عندما استقر السرير أمام يسوع في وسط المنزل كان الرجل يملأه الخوف من الجموع الغاضبة المتذمرة التي أحاطت به ولم تطمأنه إلا نظرات يسوع الحانية وابتسامته الهادئة عندما قال:
-        "يا بني مغفورة لك خطاياك!"
حدث صمت بين الجموع. التفت يسوع إلى بعض الكتبة الجالسين.
-   لماذا تفكرون في قلوبكم أنني قد كفرت عندما قلت لهذا الرجل المسكين أن خطاياه مغفورة؟ أنا أعلم أن الذي يغفر الخطايا هو الله. ولكي تعلموا أن الله قد أعطاني هذا السلطان ها أنا أقدم لكم دليل كلامي.
-        يا بُنَيَّ قم. احمل سريرك واذهب إلى بيتك
نظر المفلوج إلى يسوع متعجباً
-   كيف؟ أنا مفلوج لسنين. أنا لا أستطيع حتى الوقوف على قدميّ. كيف تقول لي أن أحمل سريري وأمشي ذاهباً إلى بيتي؟ لقد رأيت بعينيك كيف دلاني أصحابي من السقف. اشفني أولاً من شللي ثم عندئذ أستطيع أن أحمل سريري وأمضي.
-        لقد شفيتك بالفعل ولكنك لن تختبر هذا إلا إذا صدقت وقمت. قُم وسوف تجد جسدك يقوم معك.
-   بدأ المشلول يحاول. ووسط ذهول الجميع وقف وبدأ يخطو خطواتِ مرتعشة والجمع حوله يفسحون له ليس فقط لكي يمشي لكن لكي يشاهدوه. اقترب من الباب فصاح به يسوع.
-   عد إلى هنا. ألم أقل لك أن تحمل سريرك؟ هل تنتظر أن يحمل لك الناس سريرك؟ أنت الآن قادر على حمل مسئوليات حياتك. هيا احمل سريرك وعد إلى بيتك وأهلك وعملك.

بهتت الجموع وتعجبوا وقالوا فيما بينهم أن هذا لم يُرَ قط من قبل. كيف يمكن لإنسان أن يكون له سلطان مغفرة الخطايا. إنه يساوي نفسه بالله!   إنه كافر زنديق! وإن كان كذلك كيف يؤيده الله بالآيات والعجائب؟!
صار يسوع لغزاً كبيراً في كل اليهودية والجليل والناس منقسمة حوله بين مؤمن متحمس وكاره حانق ومتشكك حائر. 

الجمعة، ٢٠ أغسطس ٢٠١٠

هل تأتي مملكة الله بسيوف وعصيّ؟


9
كعادته كل يوم، كان يوحنا المعمدان قد قضى الليل كله في الصلاة قبل أن يبدأ يومه في تعميد الذين كانوا يأتون إليه من كل مكان حول الأردن. في المعتاد كان يبدأ يوحنا بعظة طويلة ثم يعمد الجموع حتى بعد الظهر بساعات، ثم يعود للراحة في كهفه وهو أحد الكهوف المنتشرة حول الأردن ليعود مرة أخرى قبل الغروب بقليل ليعمد مرة أخرى. ثم مع غروب الشمس ينعزل في البراري ليصلي طوال الليل حتى فجر اليوم التالي.
كان النهار قد انتصف وتعامدت الشمس على الأرض وبدأت مياه الأردن في الدفء وكان المعمدان قد بدأ في خاتمة عظته الطويلة عن التوبة والأعمال الصالحة:
.... من له ثوبان فليعط من ليس له
.. ومن له طعام ليفعل هكذا
.. أيها العشارون لا تأخذوا ضرائب أكثر مما هو مفروض حكومياً
.. أيها الموظفون لا تقبلوا الرشوة ولا تصدروا تصاريح إلا لمن يستحق
.. لا تعطوا تصاريح بأدوار مخالفة.. .. تذكروا البرج الذي سقط على أصحابه في سلوام!
.. أيها المعلمون لا تضربوا التلاميذ في المدارس بل ربوهم بالحب والحوار
... أيها القضاة لا ترتشوا. ويا أيها المحامون لا تبحثوا عن ثغرات القانون لتخرجوا الفاسدين وتجار المخدرات من الحبس
.. و يا واضعوا القوانين لا تصمموا الثغرات في القوانين قبل القوانين نفسها، بل سنوا قوانين العدل والرحمة
.. يا رجال الشرطة توقفوا عن تقطيع المخالفات لمن يدفعون لكم. وتوقفوا عن ضرب المواطنين في أقسام الشرطة.
.. يا
فجأة وصلت سيارات الأمن المركزي ونزل منها عشرات الجنود وكل منهم يمسك بسلاحه بقبضتي يديه ويخطو بالخطوة السريعة رافعاً قدميه عن الأرض حتى تكاد ركبته تلمس كوعه ثم يضربها في الأرض بكل قوة. انتشرت القوات الخاصة وقوات الأمن المركزي في "كردون"واسع يضم المعمدان وجمهور المعتمدين وهم يهدرون بصيحات بلا مضمون. فقط تعكس قوة وهيبة "الدولة" و ترددها الجبال المحيطة بنهر الأردن..
ثم جاءت سيارات سوداء فخمة و حديثة نزلت منها شخصيات بدت مهمة عندما ظهرت حولها جماعة من الحراس أصحاب الهيبة الشديدة والأجسام الرياضية يرتدون نظارت شمس سوداء ويضعون سماعات دقيقة في آذانهم متصلة بأسلاك رفيعة تختفي في قمصانهم ناصعة البياض وينتشرون حول الشخصيات التي يحرسونها وعيونهم متعلقة بالجبال في كل الاتجاهات.
حضرة صاحب النيافة كاهن الهيكل الأكبر حَنَّان وابن اخته قيافا الكاهن
شمعي رجل الأعمال ونائب دائرة كفر ناحوم
عزائيل إمبراطور الحديد و العضو البارز في الحزب.
وغيرهم من بعض رجال الدولة وموظفيهم المخلصين. كلهم جاءوا ليواجهوا ذلك الموقف الخطير.  أدرك المعمدان أن ضيوفه الجدد لم يأتوا لكي يعتمدوا مثل الباقين و إنما قد أتو بسبب عظته الأخيرة التي أذاعتها كل الفضائيات والتي وبخ فيها هيرودس الملك وأشار إلى عدم شرعية زواجه من هيروديا امرأة فيلبس أخيه. لقد أتوا من أجل "هيبة الدولة" التي تجرأ عليها هذا المعمدان. و خشية من الشعب، انتظروا حتى انصرفت جموع المعتمدين ثم ساقوا يوحنا إلى السجن.

عندما سمع يسوع بخبر القبض على يوحنا المعمدان قرر العودة للجليل. وقبل أن يعود إلى قريته في الناصرة قام بجولة في بعض قرى الجليل ومنها قرية كفر ناحوم وعلّم في المجامع هناك وشفى مرضى ليسوا بقليلين، وبعد عدة أيام رجع هو وتلاميذه كل إلى قريته ومدينته فعاد هو إلى الناصرة حيث كان قد تربى.

الناصرة هي أكبر مدمن الجليل واسمها الكنعاني القديم هو "آبل" أو "عين آبل" وقد اجتهد المجتهدون في تفسير اسمها وكانت كل الاجتهادات تدور حول معاني الإشراق والتفتح والعلو والسمو والبشارة والخبر السار. تقع الناصر في قلب الجليل الأدنى على سفح جبل يرتفع عن سطح البحر نحو 400 متر وتحيط بها سلسلة جبال مرتفعة هي جزء من جبال الجليل الأدنى. وتبعد الناصرة حوالي أربعة وعشرين كيلوا متراً عن بحيرة طبرية. كانت مدينة الناصرة شهيرة بشر أهلها وكانت مقر قاعدة عسكرية رومانية كبيرة لذلك كانت العبادات الرومانية الوثنية منتشرة فيها ومستوى التقوى والروحانية فيها كان منخفضاً جداً.

وفي أحد أيام السبوت دخل يسوع  إلى مجمع ااناصرة وعندما قام ليقرأ من الأسفار، دفع إليه خادم المجمع سفر إشعياء ففتحه على الموضع الذي يقول:
رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ. 2لأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ، وَبِيَوْمِ انْتِقَامٍ لإِلَهِنَا. لأُعَزِّيَ كُلَّ النَّائِحِينَ. 3لأَجْعَلَ لِنَائِحِي صِهْيَوْنَ، لأُعْطِيَهُمْ جَمَالاً عِوَضًا عَنِ الرَّمَادِ، وَدُهْنَ فَرَحٍ عِوَضًا عَنِ النَّوْحِ، وَرِدَاءَ تَسْبِيحٍ عِوَضًا عَنِ الرُّوحِ الْيَائِسَةِ، فَيُدْعَوْنَ أَشْجَارَ الْبِرِّ، غَرْسَ الرَّبِّ لِلتَّمْجِيدِ.

ثم طوى يسوع السفر وسلمه للخادم ووقف ليعظ معلقاً على ما قد قرأ و كانت عيون الجميع شاخصة له وكانوا يتهامسون فيما بينهم.
ـ إنه لا يتكلم كسائر الكتبة والفريسيين.
ـ  نعم يتكلم بقوة وبساطة غريبة
ـ أشعر كأن هذه أول مرة أسمع كلمات هذه النبوة. وكأنه يقرأ من كتاب آخر. مع أن الكلام هو الكلام.
ـ أليس هذا يسوع ابن يوسف النجار.
ـ عشنا وشفنا نجار يعلم الكتاب!
ثم ساد صمت عميق عندما نطق يسوع عبارة: " اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم." وراح يقول:
ـ لقد أقبلت عليكم مملكة الله.
بدأ الجميع يتهامسون مستنكرين.
ـ أقبلت علينا مملكة الله؟ كيف هذا؟ هل هذا الفتى يخرف؟ نحن لا نزال تحت الحكم الغربي الروماني!
أضاف يسوع:
ـ مملكة الله لا تأتي بسيوف وعُصيّ ولا تأتي بملك بشريّ.
 مملكة الله تأتي عندما يشعر المساكين المرفوضين من كل الناس بالقبول في بيت الله
 وعندما يجد المكسوري القلب شفاءًا وعزاءًا وحباً واحتراماً من كل الناس.
عندما يتحرر البشر من أسر خطاياهم ويعتقون من قيد عاداتهم.
تأتي مملكة الله عندما يدخل الجميع في زمن قبول.
عندما يُقبل المريض بمرضه فيشفى والضعيف بضعفه فيقوى والصغير بصغره فيكبر وينضُج.
تأتي مملكة الله عندما يتعزى كل النائحين. النائح على فقدان عزيز عليه والنائح على فقدان حياته الماضية. الذي فقد طفولته بالانتهاك والاعتداء والذي فقد شبابه في الخطايا والذنوب والذي فقد كل عمره في التيه والضياع...
تأتي مملكة الله عندما يستطيع من عاشوا في ثياب الحداد والعزلة ورفض الحياة أن يشعروا  بقيمة أنفسهم واستحقاقهم للحياة والجمال.
تأتي مملكة الله عندما ينوح الناس على ما فقدوه ثم يتعزوا ويقبلوا الفرح بعد أن عاشوا حياة عقيمة من اللاحزن واللا فرح.
تأتي مملكة الله عندما تتحول كلمات اليأس إلى تسابيح الشكر والأمل في المستقبل هنا على الأرض وإلى الأبد في السماء.
عندما ينظف الله أرض حياتك التي كانت مقلباً للقمامة ويغرس فيها غابة باسقة الأشجار.
لكي يحدث هذا في حياتك ليس عليك إلا أن تقبل وتوافق وتصدق. فلن تحل مملكة الله في قلوب المتشككين والرافضين والسلبيين.
لن تأتي مملكة الله في قلب يبحث عن أخطائه وأخطاء الآخرين.
لن تأتي مملكة الله في قلب قد أحب الشر وركن إليه وتوقعه.
لن تأتي مملكة الله في قلب استهواه الظلام وكره مواجهة الحقيقة.
ربما تقولون لي لماذا لم تحدث المعجزات التي حدثت في كفر ناحوم هنا في الناصرة؟ أقول لكم أنهم هناك في كفر ناحوم كانوا بسطاء يصدقون ويتوقعون الخير من الله. أما أنتم هنا فتنظرون إلىّ وتقولون أليس هذا النجار؟! الحق أقول لكم ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وبين أهله. لقد عثرتم فيّ ونظرتم إلى بشريتي ونسيتم أن الله قادر أن يحلّ أينما يشاء. أما هناك في كفر ناحوم فقبلوا ومدّوا أياديهم فأخذوا ما أراد الله أن يعطيه لكم.

امتلأ الجميع بالغضب لما قاله يسوع فهاجوا عليه ودفعوه أمامهم بطريقة مهينة فكان يقع على الأرض ثم يقوم واستمروا يدفعوه هكذا حتى حافة الجبل وكانوا يريدون أن يلقوه من هناك لكنه قاومهم واجتاز في وسطهم بقوة عجيبة ومضى إلى بيته وهو موقن أن حياته في الناصرة قد وصلت إلى نقطة نهايتها.

في الحلقات القادمة سوف نتابع يسوع وتلاميذه وهم يتخذون من مدينة كفر ناحوم منطلقاً إلى خدمتهم في كل الجليل.













10
كانت الشمس قد جلست مستريحة في عرشها في كبد السماء ترسل أشعتها القوية في ظهر هذا اليوم من شهر يونيو القائظ  والذي اختاره يسوع  ليسافر إلى كفر ناحوم. كان مدخل كفر ناحوم لا يكاد يرى من سحب الغبار التي تخلفها وراءها سيارات التوك توك  التي تتسلق المرتفعات الترابية للشارع الرئيسي المؤتدي إلى كفر ناحوم بعد أن قررت البلدية شق بطنه بالطول لتغيير مواسير المجاري والتي ظهر بعضها رابضاً على جانبي الشق الهائل كديناصورات ضخمة سوداء من الفخار المطلي بطبقة سوداء من الدهان. راحت بعض سيارات التوك توك تأخذ طريقها إلى قلب المدينة بينما تجمع عدد كبير من هذه السيارات الصغيرة السوداء والبنية الداكنة عند الموقف الواقع في بداية الشارع كمجموعة من الذباب تتجمع حول فم طفل صغير مريض كآلاف الأطفال الذين تذخر بهم كفر ناحوم.

كفر ناحوم بلدة صغيرة تقع على الشمال الغربي من بحر الجليل وتبعد أكثر قليلاً من ميلين عن بيت صيدا وهي تقع على ما يُطلق عليه "طريق البحر" وهو الطريق الممتد من دمشق إلى بتوليمايس و قد أعطاها هذا الموقع أهمية استراتيجية وتجارية كبرى. وكحال المدن الساحلية التي يتشغل أهلها بالتجارة، لم يكن لشعب هذه المدينة اهتماماً كبيرا بالأمور الروحية. وبالرغم من وجود مجمع يهودي كبير بها، وبالرغم من أن شعبها كان يؤدي كل الفروض الدينية إلا أن قلوبهم لم يكن بها أي شوق لمعرفة الله.

بدأت لافتات الانتخابات المكتوبة غالباً باللون الأحمر  تظهر في كفر ناحوم وتتكاثر مثلما تتكاثر البثور الحمراء ذات الرؤوس الصديدة البيضاء على وجه مريض بنقص المناعة.  ولم تعد تظهر الأشجار وأكشاك الكهرباء بسبب الملصقات المليئة بالكلمات الرنانة والوعود البرّاقة وصور المرشحين الذين تطل وجوههم بجدية وصرامة بالغة والكثيرون منهم لا تدري لماذا تشبه صورهم كثيراً الصور التي تأتي في صفحات الحوادث بالصحف اليومية!
بالطبع النسبة الأكبر من اللافتات من نصيب مرشح الحزب كبير التجار شمعي بن برخي، الذي هو أيضاً رئيس الغرفة التجارية و رئيس مجلس إدارة نادي كفر ناحوم الذي ينافس كبرى أندية أورشليم العاصمة في الدوري اليهودي. أما رئاسة مجلس المدينة فهي من نصيب ابنه الأكبر رأوبين بين برخي ومديرية الأمن يرأسها الابن الأوسط داود بن برخي في حين لم يرد الابن الأصغر شمعون الانخراط في سلك الوظائف الرسمية واكتفى بإدارة شركة برخي تورز السياحية.
نزل يسوع وتلاميذه  ومنهم بطرس وزوجته ضيوفاً في بيت حماة بطرس في كفرناحوم وبمجرد وصولهم ذهب يسوع عادة إلى مجمع البلدة وصار يعلم. فبهتوا من تعليمه لأنه كان يعلم كلام الله كمن هو صاحب الكلام فيدخل إلى المعنى مباشرة ويلمس القلوب. لقد كان يسوع يدخل بكلام التوارة إلى قلب الإنسان كمن هذا الكلام كلامه وكمن يعرف قلب الإنسان الذي يستقبل الكلام.
فصرخ واحد من الجمع قائلاً
ـ ما لنا ومالك أيها الناصري؟ أن أعرف أنك أنت القدوس المعين من الله. أعرف أنك الوحيد المولود من الله بلا أب بشري، والوحيد  الذي بلا خطية منذ الولادة إلى الممات لكننا مع ذلك لا نريدك!
ـ لست أنت الذي تتكلم وإنما ذاتاً أخرى بداخلك تتكلم ولها اقول أن تخرس وتدعك تؤمنه بما تعرف أنه الحق.!
ولما خرجوا من المجمع وكان اليوم سبت ذهبوا إلى بيت حماة بطرس في كفر ناحوم فوجدوا حماة بطرس مريضة بحمى غريبة أصابتها منذ أسابيع ولم تفارقها. فدخل يسوع إلى غرفة نومها.
ـ ما بك يا خالة يوكابد؟
ـ لا أدري يا بني؟ هل أنت يسوع صديق سمعان؟ يبدو من مظهرك أنك رجل دين
ـ فراستك واضحة يا خالة.
 ثم قال باسماً
ـ كيف لا تعرفين ذلك واسمك يوكابد على اسم والدة النبي موسى.
ضحكت الخالة يوكابد. وابتسم يسوع ومد يده ووضع يده على جبهتها. ظنته الخالة يوكابد يجسها ليعرف شدة حرارتها، ولكن بمجرد أن مد يسوع يده ولمس جبهتها، فارقتها الحمى حالاً. ومد لها يده وأقامها من فراشها.
ـ ما هذا؟ أشعر بقوة غريبة في جسدي. لقد عدت أفضل مما كنت. مجداً للرب. أنت بحق نبيّ أيها المعلم الصالح. قامت الخالة يوكابد يملؤها النشاط وأخذت تعد وليمة ليسوع وأمه مريم وتلاميذه وقضى الجميع أمسية جميلة يأكلون ويضحكون.
سرى  خبر شفاء حماة سمعان في البيوت المجاورة كما تسري النار في أعواد الذرة الجافة التي يجمعها أهل هذه المدينة الريفية فوق أسطح منازلهم كمخزون استراتيجي للوقود. وأغلب بيوت كفر ناحوم المتواضعة مبنية من الطوب الذي أتقنوا صناعته وخبزه كما كان أجدادهم يفعلون في مصر منذ مئات السنين. فأتوا بعد غروب الشمس، أي بعد انقضاء السبت، ومعهم كل المرضى والسقماء والذين تعذبهم أفكار شريرة ولا يستطيعون التحكم في أنفسهم، والذين شخصياتهم منقسمة ومفككة.

واجتمعت المدينة كلها عند الباب. فشفى مرضى كثيرين وأعاد السلام لقلوب كسيرة.  ومنذ ذلك الحين كان على التلاميذ أن يعملوا بجد لتنظيم خدمة يسوع وإلا فلن يحصل على أي راحلة أو يأكل أي طعام لأن كل الناس في كل المنطقة كانت تريد أن تأتي إليه فكل مريض كان يلمس يسوع كان يشفى مباشرة!

اتخذ يسوع ورفاقة من كفر ناحوم قاعدة انطلاق لخدمتهم التي بدأوا فيها يجوبون كل قرى الجليل ثم يعودوا إلى كفر ناحوم ومنها ينطلقون. في الحلقات القادمة سوف نتابع هذه الرحلات. 
 
google-site-verification: google582808c9311acaa3.html