الاثنين، ٢٣ أغسطس ٢٠١٠


11
بدأ يسوع يطوف كل قرى ومدن الجليل منطلقاً من كفر ناحوم فزار بيت صيدا وكورزين والكثير من قرى الجليل،  فيما عدا الناصرة،  وكان يعلم في مجامعهم وينادي بحلول مملكة الله. فذاع خبره في كل القرى والمدن المحيطة فكان الجميع يحضرون له السقماء والمرضى المصابين بأمراض وأوجاع مختلفة. المشلولين والمرضى النفسيين والعمي والصم والبكم وكان يشفيهم جميعاً فتبعته جموع كثيرة من الجليل ومن العشر المدن التي كانت تسكنها غالبية وثنية،  ومن أورشليم العاصمة ومن كل اليهودية ومن الأراضي الواقعة عبر نهر الأردن.
اشترى يسوع وأمه بيتاً صغيراً بالمال القليل الذي حصلا عليه من بيع بيتهم في الناصرة ودكان النجارة الخاص بيوسف الذي توفى منذ حوالي سنة.  وبجوار بيت يسوع اشترى سمعان وزوجته بيتاً آخر صغير. أما التلاميذ من غير المتزوجين فكانا ضيوفاً في بيت يسوع وبيت سمعان وكانوا جميعاً يعيشون معاً حياة شبه مشتركة ويطوفون مدن الجليل معاً ويعودون إلى كفر ناحوم لأيام قليلة بعدها ينطلقون في سبيل الله مرة أخرى.  وعندما كانوا يسافرون كانوا يقيمون في بيوت الناس في البلاد التي كانوا يذهبون إليها و يأكلون مما يقدم لهم أهل البلاد التي يزوروها. لم يحملوا ثياباً ولا  أحذية إضافية ولا فضة ولا ذهباً بل كانوا يقدمون خدمتهم وتعليمهم مجاناً.
وكان يسوع يخرج إلى الخلاء في البلاد التي كان يذهب إليها ويجتمع إليه الناس من كل مكان خارج البلدة لأن الشوارع الضيقة داخل تلك البلاد الصغيرة لم تكن تتسع للجموع التي تتجمع وتسير خلف يسوع من بلد إلى بلد. وكان دائماً ما يصعد إلى الجبال أو التلال ليعلم وتسمعه الجموع الملتفة حول الجبل أو يأخذ قارباً وينزل به إلى بحر الجليل وتتجمع الناس على الشاطئ ليسمعوه. وكان تلاميذ يسيرون حوله ليشقوا له طريقاً بين الجموع حيث كانت جموع الناس من مرضى وسقماء يجرون ويلقون بأنفسهم على يسوع لكي يلمسوه فيشفوا.
وذات يوم كان يسوع يعلم الجموع فأبصر رجلاً أبرص أكل المرض يداه وزحف على عينيه فأفقدهما البصر لكنه كان لا يزال يسمع.  فوقف خائفاً بعيداً عن الجمع لا يجرؤ أن يقترب لأن القانون كان يقضي ألا يقترب هؤلاء البرص من الناس لكي لا ينقلوا العدوى،  بل كانوا ينادون أثناء مشيهم في المدن.. أنا نجس! ... انا نجمس!  لكي يسمع الناس فيبتعدون.  وكان من ينسى أن يفعل ذلك يرجم.

عندما سمع هذا الأبرص بيسوع جازف بالاقتراب من الجمع وهو يقول خائفاً .... أنا نجس! .... أنا نجس! ....فلاحظ يسوع صراخه حتى أنه كان كاد يشوش على تعليم يسوع. فاجتاز يسوع بين الجموع حتى وصل إليه. فما كان من الرجل الأبرص إلا أن سجد إلى الأرض أمامه.
ـ  يا سيد إن أردت تقدر أن تطهرني
فمد يسوع يده إليه ولمسه
ـ أريد فاطهر
فذهب برصه في الحال
ـ  لماذا لمستني؟ كنت تستطيع أن تقول فقط أن أطهر فأطهر. أنا أعلم أنك تشفي بكلمة!
أجابه يسوع وهو يستمر في لمسه يديه المقروحتين وعيناه التي اغلقتها الأنسجة الليفية الناتجة من الالتهاب.
ـ نعم يا بني. جلدك يحتاج فقط لكلمة، أما قلبك فيحتاج للكثير من اللمسات.
بكى الأبرص واحتضن يسوع. فراح يسوع يربت على كتفه وشعره، ثم أمسك يسوع بكتفيه وأعاده للوراء ونظر إلى عينيه اللتان بدأتا تظهران من خلف الأنسجة الملتهبة كالشمس التي تظهر من وراء الغيوم.
ـ أنظر. لا تقل لأحد ولكن اذهب أر نفسك للكاهن وقدم القربان الذي أمر به موسى شهادة للشعب. وإن سألك أحد ما الذي حدث. قل شفاني الله!

عندما عاد يسوع إلى بيته في كفر ناحوم كان في إحدى الليالي نائماً عندما سمع قرعاً شديدا ًعلى الباب حتى كاد ينكسر، فقام وهو شبه نائم يحاول أن يفهم ما يحدث متحسساً طريقه في الظلام حتى وصل إلى المزلاج ففتحه وفي ضوء القمر بالخارج رأى زائر منتصف الليل هذا. لقد كان السيد شمعي بن برخي التاجر الكبير.
 مفاجأة!
ـ أهلاً يا سيد شمعي  خير.... ما الخطب؟
ـ أريد أن أتحدث معك أيها المعلم. لقد استئذنت من تلميذك الساهر عند الباب أن أتحدث إليك قليلاً. هل لي أن أدخل؟
ـ تفضل !
ـ أنا آسف لمجيئي في هذا الوقت، فأنت تعلم، لا أستطيع أن آت أثناء النهار. أنت تدرك بالطبع حساسية مركزي السياسي.
ـ نعم أدرك ذلك
ـ سوف أدخل في الموضوع مباشرة. أنت تعلم أني مرشح لعضوية مجلس الشعب عن دائرة كفر ناحوم.
ـ نعم أعلم
ـ وتعلم أيضاً أنني مرشح الحزب الحاكم، ولابد أن أفوز بهذه الانتخابات
ـ أعلم. وستفوز
ـ أنا أيضاً أدرك أن شعبيتك في كل الجليل فاقت كل تصور. وأنا أحترمك وأقدرك جداً. بل أنا أرى، وأرجو أن يكون رأيي هذا بيننا فقط، أنك بالفعل نبيّ عظيم وأن الله كما يقول العامة، قد افتقد شعبه بإرسالك لنا.
ـ باب التوبة مفتوح أمام الجميع، ولكن القليلون هم الذين سوف يدخلون من هذا الباب الضيق ويسيرون الطريق الصعب الصاعد لأعلى.
ـ لا افعم
ـ الباب ضيق والطريق كرب لأنه ضد شهوات الإنسان التي توحشت بسبب الانفصال عن الله،  أما الباب الواسع والطريق الرحب السهل فهو الطريق الذي يسير بعيداً عن الله نحو الهاوية.
بدا بعض الارتباك البسيط على وجه السيد شمعي، فحاول العودة مرة أخرى إلى الموضوع الذي جاء من أجله.
ـ باختصار ودون لف أو دوران. أنا أحتاج لشعبيتك لكي أفوز في الانتخابات. أريدك أن تظهر معي في الندوات واللقاءات. لا تحتاج لأن تقول شيئاً بل يرى الناس أنك معي ونلتقط بعض الصور التي نعلقها هنا وهناك. لن يكلفك الأمر شيئاً، بل ربما يكون مربحاً. أنت بالطبع تحتاج لبعض التبرعات للإنفاق على رحلاتك المتعددة في كل قرى ومدن الجليل.    قال شمعي هذا وهو ينظر نظرة تجعله يبدو كمن يدرك بواطن الأمور في كل مجالات الحياة.
ـ أنا أعلم أنك تظن أن تحتاج إليّ فقط للفوز في الانتخابات،  ولكن الحقيقة هي أن ما تحتاجه مني أكثر  وأهم بكثير من ذلك.
ـ لا لست أريد إلا النجاح في الانتخابات.
ـ أنا أعلم ذلك.  وسوف تنجح في الانتخابات بمساعدتي أو بدونها. أنت تبحث عن مملكة الأرض وسوف تحصل عليها. أما ما أهتم به أنا فهو أمر آخر. إنها مملكة الله التي تدوم إلى الأبد.
أيقن السيد شمعي أنه يتكلم لغة  أخرى غير التي يتكلمها يسوع، وبفطنة التاجر الشاطر،  تأكد أن الصفقة التي جاء ليبرمها لن تتم، فقرر أن ينسحب بهدوء وأناقة، كما أنه اطمأن لتأكيد يسوع له أنه سيفوز في الانتخابات فهي على أي حال كلمة من نبيّ.
ـ  طاب مساؤك أيها المعلم وأعتذر مرة أخرى على الإزعاج. أرجو أن تسامحني.
ـ  لا عليك. طاب مساؤك يا أخي. سوف أصلي من أجلك. لا للفوز في الانتخابات بل لما هو أهم من ذلك.

وفي طريق يسوع إلى فراشه، نادته مريم أمه
ـ  يسوع
ـ  نعم يا أماه، هل أنت مستيقظة؟
ـ  نعم.  أوقظني القرع على الباب
ـ  أعتذر يا أمي لما أسببه لك من إرهاق. عودي لنومك
ـ يا بنيّ أنا أشفق عليك. الحياة بهذه الطريقة ضرب من الانتحار. هوِّن عليك يا حبيبي.
ـ إنه وقت للعمل يا أماه. يجب أن أعمل عمل الذي أرسلني مادام الوقت مناسباً،.  يأتي بعده وقت  لا يستطيع أحد فيه أن يعمل.
ـ ليقوك الله يا ولدي!
ـ تصبحين على خير يا أماه.                
إلى اللقاء في الحلقة القادمة من مملكة الله









12
عاد يسوع إلى كفر ناحوم بعد رحلة تعليمية ودَعَوية في قرى الجليل. و كان أحد الرجال الموسرين في كفر ناحوم قد نظم جلسة تعليمية في بيته الكبير نسبياً دعا إليها الكثير من الفريسيين ومعلمي الناموس الذين قد أتوا من كل قرية من قرى الجليل واليهودية وأورشليم. وعندما عرف الناس بوجود يسوع في هذا "المؤتمر" فاجتمع جمع كبير في البيت وحوله فتوقف يسوع عن الجدل الفكري اللاهوتي مع الفريسيين ومعلمي الناموس والتفت للجموع المتزاحمين حول البيت، وبدأ يعلمهم كعادته بلغة بسيطة وباستخدام الأمثال.
-   يا إخوتي الدليل على أن التعليم من الله هو أنه يغير الحياة ويُصلح المجتمع. أما التعليم والدين والتدين الذي يظل قشرة جميلة تخفي تحتها كل الموبقات فهذا ليس سوى تخدير، والتخدير ليس من الله بل من إبليس. الله لا يُخَدَّر وإنما هو يُغَيِّر. الثمر الصالح يدل على صلاح الشجرة والثمر الفاسد ينبئ عن جذورها الفاسدة. وسيأتي يوم توضع الفأس على كل الشجر الفاسد فيجتث ويزرع الله زرعاً صالحاً يثمر ثمراً يدوم. فافحصوا إذاً أشجار حياتكم ومن ثمارها تعرفونها. لا تحاولوا أن تلصقوا ثماراً صالحة من أعمال بر وتقوى على شجرة فاسدة الجذور فسوف تسقط وتعود الشجرة إلى ثمارها. افحصوا أصل الشجرة وجذرها. اجتثوا الشجر الفاسد المزروع في الأرض المالحة وازرعوا شجرة حياتكم الجديدة في أرض خصبة نظيفة.
-        وكيف نعرف الأرض الخصبة من الأرض المالحة؟
-   الأرض الخصبة تعلن عن نفسها بالأشجار المثمرة الموجودة فيها. فإن كان الثمر ينبئ بصلاح الشجر فالشجر المثمر ينبئ بصلاح الأرض المزروع فيها.
فجأة ظهرت مجموعة من الرجال أحدثوا هرجاً ومرجاً حيث كانوا يزاحمون وسط الجموع محاولين أن يصلوا إلى يسوع وهم يحملون إنساناً مشلولاً وعندما لم يقدروا أن يخترقوا الجموع ليصلوا إلى يسوع انسحبوا بعيداً.
عاد يسوع لتعليمه..
_ لا تلتفتوا إلى ما يقوله الناس بل إلى ما يفعلونه. سوف تجدوا الكثيرين أصحاب كلام عذب وحلو وبليغ لكن أعمالهم لا تتوافق مع كلامهم. ابحثوا عن الحقيقة ولا تنخدعوا بمعسول الكلام!

فجأة سُمعَ صوت قادم من سقف البيت الذي كان "المؤتمر" منعقد به وأدرك الجميع أن أناساً قد تسلقوا الجدران وبدأوا يعبثون بالسقف. لم يصدق البعض لكن بعد دقائق كانت فتحة كبيرة قد أُحدِثت بالسقف حيث كان هناك أربعة رجال فوق السقف يزيلون بهمة عروق الخشب وأعواد الشجر والنخيل المصنوع منها السقف محدثين جلبة شديدة وعاصفة من التراب ملأت البيت وأعمت عيون الجموع.  تصايح الناس متذمرين ومهددين  وخرج صاحب البيت مسرعاً لكي يستدعي الشرطة الرومانية. أما هؤلاء الرجال الأربعة فلم يوقفهم شيء حتى أكملوا الفتحة الكبيرة في السقف، ولدهشة الجميع بدأوا يدلون من السقف سريراً مربوطاً بأربعة حبال يمسك به كل واحد منهم. وعندما تدلى هذا السرير المصنوع من عروق الخشب والحبال والمفروش بسعف النخيل وجدوا عليه رجلاً هازلاً ضامر العضلات زائغ العينين يبدو عليه أنه مشلول بلا حراك لسنوات طويلة.
عندما استقر السرير أمام يسوع في وسط المنزل كان الرجل يملأه الخوف من الجموع الغاضبة المتذمرة التي أحاطت به ولم تطمأنه إلا نظرات يسوع الحانية وابتسامته الهادئة عندما قال:
-        "يا بني مغفورة لك خطاياك!"
حدث صمت بين الجموع. التفت يسوع إلى بعض الكتبة الجالسين.
-   لماذا تفكرون في قلوبكم أنني قد كفرت عندما قلت لهذا الرجل المسكين أن خطاياه مغفورة؟ أنا أعلم أن الذي يغفر الخطايا هو الله. ولكي تعلموا أن الله قد أعطاني هذا السلطان ها أنا أقدم لكم دليل كلامي.
-        يا بُنَيَّ قم. احمل سريرك واذهب إلى بيتك
نظر المفلوج إلى يسوع متعجباً
-   كيف؟ أنا مفلوج لسنين. أنا لا أستطيع حتى الوقوف على قدميّ. كيف تقول لي أن أحمل سريري وأمشي ذاهباً إلى بيتي؟ لقد رأيت بعينيك كيف دلاني أصحابي من السقف. اشفني أولاً من شللي ثم عندئذ أستطيع أن أحمل سريري وأمضي.
-        لقد شفيتك بالفعل ولكنك لن تختبر هذا إلا إذا صدقت وقمت. قُم وسوف تجد جسدك يقوم معك.
-   بدأ المشلول يحاول. ووسط ذهول الجميع وقف وبدأ يخطو خطواتِ مرتعشة والجمع حوله يفسحون له ليس فقط لكي يمشي لكن لكي يشاهدوه. اقترب من الباب فصاح به يسوع.
-   عد إلى هنا. ألم أقل لك أن تحمل سريرك؟ هل تنتظر أن يحمل لك الناس سريرك؟ أنت الآن قادر على حمل مسئوليات حياتك. هيا احمل سريرك وعد إلى بيتك وأهلك وعملك.

بهتت الجموع وتعجبوا وقالوا فيما بينهم أن هذا لم يُرَ قط من قبل. كيف يمكن لإنسان أن يكون له سلطان مغفرة الخطايا. إنه يساوي نفسه بالله!   إنه كافر زنديق! وإن كان كذلك كيف يؤيده الله بالآيات والعجائب؟!
صار يسوع لغزاً كبيراً في كل اليهودية والجليل والناس منقسمة حوله بين مؤمن متحمس وكاره حانق ومتشكك حائر. 

هناك تعليق واحد:

Estfanos يقول...

قدم تحياتى لك و أريد أن أعبر لك عن مدى فرحى بإيجادى لهذه المدونة فهى مدونة تقدم مقالات فوق الرائعة
كنت أريد دعوة حضرتك للأنضمام لجروب أنشأناه لنشر المدونات المسيحية التى تقدم فكر عن كيف يحيا الأنسان حياة ميسحية تليق بكوننا نسير فى إثر مخلصنا الصالح بننشر فى الجروب ده لينك المدونة و كمان بننشر جزء من كل مقالة يتم نشرها فى المدونة فأرجو من حضرتك الموافقة على الأنضمام لنا لينك الجروب

http://www.facebook.com/group.php?gid=145798928787547

 
google-site-verification: google582808c9311acaa3.html