الأحد، ١٥ أغسطس ٢٠١٠


1
مملكة الله..... تلك العبارة المشحونة بالمشاعر والمعاني المغلقة على الفهم، تجعل الصور تتراقص في خيال السامعين للراهب الثائر يوحنا المعمدان وهو يصرخ:  "توبوا لأنه قد اقترب ملكوت الله."  صور مبهجة تدور في خيال السامعين... رايات زاهية الألوان تخفق تحت رؤوس تملؤها العزيمة والتصميم، جيوش براقة تلمع فيها حدود السيوف المسنونة والخوذات النحاسية والنياشين الذهبية.  الهيكل على مرتفع عالي في وسط المدينة المقدسة أورشليم وقلب حياتها. بناء شامخ، مفخرة كل الشعب الساكن في الأراضي المقدسة والمتناثر في كل أنحاء العالم. يقتطعون من قوت عيالهم لكي يحجوا إليه كل سنة.  قصر الملك، كنوز سليمان، ذلك الحلم بالمملكة التي يأتيها الزوار المبهورون من المشرق والمغرب. رُسل من كل أمة وشعب، بيض شقر،  وسود لامعين،  وصفر قادمين من أقصى الشرق يترضون وجه الملك بهدايا من بلادهم. كل خيرات الأمم تتدافع إلى أورشليم وشعبها غارق في عبادة الإله الواحد الذي تنكسر أمامه كل الأصنام.
بينما كان تعليم المعمدان يشكل رأس الحربة في الحراك الديني الحادث، كانت رياح التغيير تلعب في اليهودية والجليل والحراك الاجتماعي والاقتصادي يتصاعد. الجميع يشعرون بالترقب المشوب بالحذر والخوف وبعض اليأس من التغيير. هيرودس الكبير مات بعد أن قضى على عرش أورشليم أكثر من ثمانية وعشرين سنة. بعد وفاته تقسمت فلسطين بين أرخيلاوس الوالي على اليهودية و هيرودس أنتيباس على الجليل وفيلبس أخاه على قيصرية (التي سمت باسمه: "قيصرية فيلبس").  ميليشيات الإخوان اليهود "الغيوريين" تتدرب في أماكن صحراوية نائية لتبقى متأهبة على هامش الحياة السياسية منتظرة اللحظة التي يضعف فيها الحكم للدرجة التي تجعلها قادرة على الوثوب عليه في أي وقت مثل البكتريا التي تعيش في الأمعاء وتحت الجلد منتظرة ومتمنية اللحظة التي تضعف فيها مناعة الجسم المترهل المثقل بالهموم والديون والفساد.
ولعل المثل الصارخ للفساد كان هيرودس أنتيباس. حاكم الجليل الذي جمع حوله ثلة من التجار والعشارين الفاسدين الذين يمتصون دماء الشعب، ويلقون له بفتات من "فرص العمل" ووعود الاستثمار الذي لا تذهب ثماره إلا إلى فئة الواحد بالمائة من الشعب، بينما الباقون يزدادون فقراً، وكلما علت بعض أصوات المعارضة لفضح الفساد وارتفاع الهوة بين الأغنياء والفقراء، كان الرد سريعاً بتقارير وإحصاءات كلها تشير إلى النمو الاقتصادي الذي حققته الحكومة خلال السنوات الأخيرة وكيف ارتفع "متوسط" دخل الفرد في الجليل وكيف معدل الإنفاق قد زاد مدللين بذلك على ارتفاع مستوى المعيشة. بينما الحقيقة أن هذا الإنسان "المتوسط" ليس سوى إنسان افتراضي غير موجود سوى في أوراقهم.  فهو المتوسط الحسابي بين الغنى الفاحش والفقر المدقع الذي يعاني منه شعب الجليل. وهكذا يستمر "التعاون" بين رجال السلطة ورجال المال مع رجال الاقتصاد والإعلام مكونين لوبي منيع لا تخترقه أحلام التغيير.
تذهب الكاميراً بعيداً. .تخرج تدريجياً من كردون المدينة الأخطبوطية المترهلة ـ أورشليم، التي تترامى أطرافها بدون تخطيط وبضعف شديد في البنية التحتية والقدرة على الإدارة.. تعبر الكاميرا "الطريق الدائري" الذي يصل أورشليم بأريحا. وهو طريق متهالك رغم حداثته، وحالك الظلام، حيث تضاء مصابيحه في النهار وتطفئ ليلاً. ربما كان هذا هو السبب الذي يجعل الكثير من حوادث التحرش والاغتصاب والسرقة بالإكراه تحدث ومن هذه القصص تلك القصة الشهرية التي تناقلها المجتمع عن ذلك السامري "الصالح" الذي أنقذ يهودياً هجم عليه اللصوص في هذا الطريق.
تتحرك الكاميرا إلى الغرب قليلاً لتجد مجموعة من اليهود الأتقياء الذين يعيشون في الكهوف المنتشرة في صحراء اليهودية. يصلّون طوال الليل والنهار متهجدين طالبين مجيء الملكوت. كانت هذه المجموعات المسماة بالقيروانيين أو الآسينيين تصلي منتظرة حلول ملكوت السموات ـــ العدل الكامل ــ البر الذي لا تشوبه شائبة ــ اختفاء الفقر والمرض و الخطية وانتشار الإيمان الصحيح. ينتظرون أن يأتي المسيا بقوة وسلطان إلهيين ليفعل هو كل شيء وهم يقفون وينتصبون ويمجدون الله.
لقطة بانورامية للهيكل.. اليوم عيد الفصح. نهاية مناسك الحج إلى الهيكل في أورشليم..... مئات من البسطاء يسيرون بإعياء طريقاً طويلاً صاعداً للهيكل.. فقراء اقتطعوا من قوتهم اليومي ثمناً لذبائح متواضعة مثلهم من الحمام واليمام يرجون بها أن يتقبل الله صلاتهم ويغفر ذنوبهم. بعضهم جاءوا من بلاد بعيدة يحملون جوازات سفرهم وبها تلك التأشيرة الغالية للأراضي المقدسة التي دفعوا فيها ربما كل ما يملكون. بعضهم جاء بالقُرعة الحكومية في وسائل نقل أقل من الآدمية "استشهد" فيها السنة الماضية الآلاف غرقاً في البحر على ظهر سفينة يملكها أحد رجال الثقة المقربين من الحكم الهيرودسي في الجليل والذي فر بالطبع دون عقاب منتظراً أن ينسى الناس الذين لا يجيدون شيء سوى النسيان.  ثم يأتي حكم البراءة بعد سنوات كخبر صغير في الجريدة الحكومية لا يقرأه أحد! بعضهم وضعوا كل مدخرات شيخوختهم آملين أن يموتوا ويدفنوا في أطهر بقاع الأرض أو حتى يموتوا دونها. وإن عاشوا فثمّة رحلة واحدة سنوياً إلى الهيكل في أورشليم تضمن لهم غفران الخطايا والبداية من جديد.
تصعد الكاميرا وتسبق جموع الحجيج. تتزايد سحب البخور وتتضح تدريجياً أصوات التراتيل الدينية بلغة عبرانية غريبة لم يعد يستخدمها الشعب الذي يتكلم الآرامية.  تتسلل الكاميرا الخبيثة خلف أحد أعمدة الهيكل في القُدس الذي يتمتع بدرجة من الظلام حتى في منتصف النهار تكون كافية لأن تحدث فيه أحداث بعيدة عن عيون الصحافة التي أصبحت متربصة بالجميع.  من هذا؟  إنه أحد كبار تجار أورشليم.. ملابسه الحريرية تكشف حالته الاقتصادية المختلفة عن أغلب السائرين حوله في جماعات تتفرق وتتجمع بينما يقوم الجميع بمناسك الحج. لماذا يتحرك بسرعة متسللاً خلف هذا العامود؟
ما الذي يخرجه من حزامه المصنوع من الحرير "السادة" والذي يلف به ثوبه الحريري الفضفاض المنقوش بنقشة بارزة لا تنسج إلا في بلاد الهند البعيدة مما يجعله غالي الثمن جداً. هزّ الكيس قليلاً في فخر، فهمست رنة مكتومة لعملات ذهبية تكدست داخل الكيس حتى لا يكون كبير الحجم فيلفت النظر. يمد به يده بخوف وتردد ... تخرج من الظلام يد متمرسة وفي حركة خاطفة بارعة تلتقط الكيس. تقتحم الكاميرا "الشقية" الظلام لترى من صاحب اليد التي خرجت من الظلام وتكون المفاجأة ! إنه مولانا نيافة الحبر الجليل شيخ الهيكل الأكبر.. بسرعة تحركت خطوات صاحب النيافة بخفة وسرعة غير متمشية مع سنوات عمره الستين والتي تشى بها لحيته التي تمكن منها المشيب، وفي حركة واحدة أخفى كيس الذهب في ملابسه السوداء الفضفاضة التي تصدر مع خطواته السريعة حفيفاً مسموعاً يشبه ضربات الأجنحة الجلدية للخفافيش التي تعيش في الكهوف المظلمة أثناء النهار.  توارى مولانا خلف الأعمدة الكثيرة.. وانسحب التاجر ليخرج بسرعة من القدس الذي لا يحل دخوله إلا للكهنة، ويختفي وسط زحام الحجيج متوجها ً لقاعة الأمم.
قاعة الأمم هي إحدى قاعات الهيكل كانت في التصميم الأساسي مخصصة للضيوف من الأمم الوثنيين الذين كانوا يسمعون من اليهود المقيمين في بلادهم عن الإله الواحد فيأتون معهم لحضور مناسك عبادة هذا الأله حتى أن بعضهم يقرر الانتماء له وعبادته.  لذلك فقد كان في تصميم الهيكل مكاناً لغير اليهود للمشاركة في العبادة. وذلك لكي يكون الهيكل بيت صلاة لكل الشعوب وليس للشعب اليهودي وحده. فقد كانت مسئولية الشعب اليهودي ليست فقط أن يكون فقط "خير أمة أخرجت للناس" وإنما أن يكون نوراً للأمم: « أَنَا الرَّبَّ قَدْ دَعَوْتُكَ بِالْبِرِّ فَأُمْسِكُ بِيَدِكَ وَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْداً لِلشَّعْبِ وَنُوراً لِلأُمَمِ لِتَفْتَحَ عُيُونَ الْعُمْيِ لِتُخْرِجَ مِنَ الْحَبْسِ الْمَأْسُورِينَ مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ.» (إشعياء 42: 6-7). مع الوقت ضَعُفَ الاهتمام بهذه القاعة وكان هذا يعكس كراهية اليهود لكل الأمم  حيث اعتبروهم كلاباً وأقل من البشر. لم يكن منطقياً بالنسبة لهم أن يساووا بين اليهوديين والمجرمين، فظلت هذه القاعة خالية مهجورة لقرون عديدة، حتى جاءت الحكومة الحالية بأحلامها وبرامجها الاستثمارية. وفي أحد اجتماعات مجلس الوزراء، تساءل وزير "الاستثمار" بجرأة يتمتع بها ذلك الجيل الجديد من قادة الحزب: " لماذا تظل هذه القاعة هكذا خالية، طالما لا يجرؤ أي إنسان من الأمم أن يطأها بقدمه؟!" عندئذ نظر أفراد الحرس القديم بعضهم لبعض مندهشين لجرأة هذا الوزير الجديد الذي يتنمي لطبقة رجال الأعمال والذي لم يمارس السياسة مطلقاً قبل التحاقه بالحكومة، لذلك لم يكن يفكر إلا بمنطق الربح والخسارة ولم يكن يدر أن هناك مناطق محظورة لا ينبغي الكلام عنها مطلقاً. مضى الوزير الشاب يواصل حديثه ولم يستطع أحد مقاطعته فهو صديق عزيز لابن الملك الذي يعّدونه للخلافة.
-        لماذا لا نستغلها لإقامة مشروع استثماري يديره بعض من رجال الأعمال الوطنيين، ويوفر فرص عمل للشعب المكافح؟! .. لم يفته أن يستخدم بعض من العبارات السياسية المعروفة التي لم يكن في واقع الأمر يؤمن بها.
لم يعلّق أحد بالقبول أو الرفض. ثم في اجتماع سرّي بإحدى الليالي الخالية من القمر بين الحبر الجليل وبعض من ثقاة الكهنة المقربين له، و شيخ التجار شمعي بن برخي، الذي هو أيضاً عضو في مجلس الشعب اليهودي (المجمع) عن دائرة كفر ناحوم، التي لا يزورها إلا قبيل الانتخابات ليوزع الذبائح وأثواب القماش الرخيص، وبعض من التجار الآخرين الذين لديهم خبرة ببناء الأبراج، مثل البرج الذي في سِلوام، الذي بسبب "التوفير" في أساسته من الأسمنت والحديد المغشوش الذي يحتكر صناعته عضو بارز آخر في الحزب الوطني اليهودي، سقط على سكانه وقتل ثمانية عشر منهم.
وبالطبع كان التعاون بين الحبر الجليل، الذي هو أيضاً مفتي الديار اليهودية، ودوائر الحكم على أشدّه في ذلك الوقت، فعقد الشيخ الكبير يومها "مؤتمراً صحفياً" دعا إليه كل مندوبي الصحف ووكالات الأنباء المحلية والأجنبية ليصرّح فيه بأن المصيبة التي حدثت، كانت عقاباً من الله فهؤلاء الثمانية عشر بالذات كانوا مذنبين أكثر من جميع الناس الساكنين في أورشليم في ذلك الوقت. حيث أنهم كانوا يُفرِّطون في الصلاة وكانت نساءهم سافرات متبرجات فأنزل الله بهم هذا العقاب.
هذه مجرد عينة من التعاون المستمر بين رجال المال والتجارة الذين يشكلون الرأسمالية الوطنية اليهودية ورجال الدين، حماة الهيكل والشريعة ومصدر الإفتاء والمشورة الدينية. وهذا بالطبع يعيد للأذهان القضية التي شغلت الرأي العام اليهودي لشهور عديدة ، وهي قضية زواج الملك هيرودس أنتيباس الحاكم في الجليل من هيروديا امرأة أخيه فيلبس. وثار الجدل وكتبت كل صحف المعارضة عن الزواج وكيف أن هيرودس كان في علاقة عاطفية مع هيروديا حتى أثناء حياة فيلبس. بينما كان صُحُف الحكومة تفرد المقالات الطويلة التي توضح فيها سماحة هيرودس وكيف أنه "اضطر" للزواج منها حماية لها من الفتنة بعد أن كفر زوجها فليبس، أخو الملك وتورط في عبادة زيوس في روما حيث كانا يقيمان. فأصبح لزاماً على الملك هيرودس حامي الإيمان أن يفرِّق بينها وبين زوجها الكافر ويأخذها لنفسها حماية لها وللأسرة المالكة برمتها.
دارت هكذا القصة "الحكومية" التي تم توزيعها على كل الصحف القومية:
بينما كانت هيروديا في زيارة حج إلى أورشليم، قام الحبر الجليل مع الملك هيرودس بإقناعها ألا تعود لزوجها الكافر فيلبس، حتى أن الحبر الجليل أفتى بتفريقهما بسبب كفر وفسق فيلبس الذي شوهد يدخل هيكل زيوس في روما، كما أن هذا الملك الفاجر الفاسق قد عقد اجتماعاً مع كتاب ومفسرين اليهود معروف عنهم تحررهم وكفرهم ومحبتهم للوثنيين من اليونانيين والرومان، وقاموا في هذا الاجتماع ببث أفكاراً هدامة من شأنها الإساءة لليهودية وشيوع الكفر والإلحاد وزعزعة نسيج الأمة الواحد.
(أشارت صحيفة يسارية معارضة إلى هذه الاجتماعات وأوضحت أنها كانت تهدف إلى إيجاد فهم لاهوتي معاصر للكتب المقدسة وتبني مزيد من الحرية في تفسير النصوص و مراجعة التفسيرات الحرفية التي اعتبرات الأمم كلاباً و الدعوة إلى علاقات حوار مع الأمم من اليونان والرومان.)
وتستكمل القصة الحكومية....
وبالطبع تدخل الملك الرحيم هيرودس بسماحته المعهوده وقرر أن يتزوجها حماية لها وحماية لسمعة الأسرة المالكة التي لوثها فيلبس الكافر الزنديق.
بالطبع هرعت الصحف الحكومية لتمجيد الملك المؤمن هيرودس الذي ضحى وتزوج هيروديا، حتى أن بعض الكتاب "الوطنيين" ذهب به الأمر إلى أنه قص رواية عن رؤيا رآها هيرودس، يأمره الله فيها بأن يتخذ هيروديا زوجة له، فما كان من هيرودس إلا أنه أطاع الأمر الإلهي!
هذا بالطبع بالإضافة إلى الكثير من القصص والروايات التي كانت تطبع في المطابع الحكومية التابعة لهيئة "قصور" الثقافة و تنشر على نفقة الدولة مثل: " هيرودس وهيروديا. أمل اليهودية!" و " توافق الأسرة الملكية.. هيرودس وهيروديا". واستمر اللغط في الشارع اليهودي، فاضطر مولانا غبطة الحبر الجليل، مفتي الديار اليهودية أن يتدخل بوطنية بالغة لإنقاذ البلاد من الفتنة ولتحقيق "الأمن" والاستقرار، فعقد مؤتمراً صحفياً مشابهاً أقر فيه بشرعية زواج هيرودس من هيروديا ليتم إغلاق الملف إلى الأبد  فقد قال الدين كلمته في القضية ولا يملك هيرودس إلا أن يمتثل للفتوى التي جاءت من المتخصصين من أهل الذكر، و"يضطر" للاحتفاظ بهيروديا زوجة له.
نعود للاجتماع الاستراتيجي الذي تم بمعرفة ومباركة، ولكن دونما تورط مباشر، من رجال الحزب وفي هذا الاجتماع تم وضع خطة سرية متدرجة، لتفادي ثورة الشعب، تهدف في النهاية إلى جعل قاعة  الأمم  الكبيرة "مولاً" تجارياً به محال عديدة المفترض أنها لبيع الذبائح للشعب القادم للحج والقيام بخدمة تغيير العملة للحجاج القادمين من بلاد أخرى تستخدم عملات مختلفة. ثم بالتدريج تضاف محال أخرى لبيع مستلزمات الحج المختلفة المستوردة من الشرق، مثل السبح الكهرمانية والسجاجيد الفارسية  والعطور ومستحضرات التجميل المقدسة التي تجعل من خبرة الحج خبرة "خمس نجوم". ثم في المرحلة التالية تضاف بعض المقاهي الرومانية الحديثة ومطاعم الوجبات السريعة التي تخدم الحجاج القادمين من بلاد بعيدة وليست لهم بيوتاً في أورشليم ليأكلوا فيها.
كما تم الاتفاق على أن يكون هناك امتداداً أو مرحلة ثالثة للمول التجاري تبنى في صورة طابق علوي يتم الربط بينه وبين قاعة الأمم بمصعد ذو جدار شفاف يتيح للمتسوق في المول أن يرى صورة بانورامية للهيكل كله بحيث يستمتع بخبرة التسوق والخبرة الروحية الورعة في آن واحد! وتم الاتفاق على تسويق "مول الحرم" هذا في كل الأمم لكي يأتي الحجيج من بلادهم وهم مستعدون لخوض تلك التجربة المتكاملة، فتم الشروع في إطلاق موقع على الانترنت شعاره: "مدينة عالمية على أرض يهودية... الدين والدنيا معاً! " واتفق الجميع على نسبة توزيع الربح، بالطبع مع التأكيد على ذهاب بعض "التبرعات" من أجل تنمية مشروعات جيل "المستقبل" و تأليف الكتب عن "الفكر الجديد" للحزب اليهودي المتجدد دائماً وبالذات على مدار السنوات الثمانية والعشرين الماضية!
وقبل نهاية الاجتماع.. اقتحم المكان فجأة أحد الرجال الذين يرتدون الحلل السوداء والنظارات السوداء ويضعون أشياءّ لا يعرفها أحد في آذانهم، ومال على أحد الحاضرين في الاجتماع مخبراً إياه بأمر يبدو أنه عاجل وخطير....
ثم سرعان ما دخل عدة رجال مماثلون ومال كل واحد منهم على أذن الرجل الخاص به في الاجتماع. وكما يبدو، نقلوا نفس الخبر لكل "الكبار" الموجودين... تكهرب الجو... و انتهى الاجتماع بسرعة فلم يختموه بالصلاة، وهرع كل واحد إلى مكتبه وجيش أعوانه وموظفيه لمحاولة السيطرة على هذا الموقف الخطير الجديد!





2
تحول لون الشمس إلى البرتقالي المائل إلى الحمرة وصارت مثل قرص كبير مرسوم بيد ثابتة لتلميذ تجاوز العاشرة وتعلم أن يلوِّن دون أن تخرج الألوان عن الحدّ. في هذه الساعة من الغروب، انصاعت أشعة الشمس الحارقة وصارت خافتة مروّضة لا تخرج عن حدود ذلك القرص البرتقالي الهائل الذي يعلو هامات جبال قمران ويمكن للعين المجردة أن تنظر إليه طويلاً وتتأمل جماله الأخاذ. بدأت أضواء مصابيح زيتية مرتعشة ترصع الفضاء الذي بدأت تزحف عليه الظلمة مثل نقوش ذهبية متفرقة على ثوب سهرة داكن الزرقة. وبدأ سكون المكان ترصعه أصوات تراتيل خافتة تتخللها أصوات الرياح التي تصفر في فتحات الكهوف المتناثرة حول الوادي. كان وادي قمران يقع على بعد نحو ميل إلى الغرب من الطرف الشمالي الغربي للبحر الميت . وعلى بعد يزيد قليلاً عن ثمانية أميال إلى الجنوب من أريحا. مكان منعزل، بعيد جداً عن أورشليم العاصمة لذا فقد كان موقعاً مثالياً لتلك الجماعة التقية التي اختارت لنفسها الهجرة عن المجتمع الأورشليمي الكافر لكي تنتظر مجيء المسيا وتحقق مملكة الله.
..اللهم انصرنا نحن أبناء النور..على القوم الكافرين
...اللهم شتت جمع أبناء الظلمة
... ليأت ملكوتك على الأرض
... يا أيها الاسم الحقيقي
... اللهم انصر إسرائيل الحقيقية
... ولينهزم الكفر والشرك
.. اهدم أشباه الحقائق
.. والكهنوت الشرير
.. اللهم أنصر المعلم البار
.. الهادي المهدي المنتظر
.. وليأت المسيا
.. الذي تنتظره جميع الشعوب
.. ليسود السلام على الأرض
لقد كانت هذه الطائفة تتكون من جماعة من الكهنة المنشقين عن النظام الكهنوتي الحالي و بعض العلمانيين، يعيشون حياة مشتركة من التقوى والتدين الشديد في الكهوف المنتشرة حول وادي قمران. وكان لديهم مبنى رئيسي يشغل مساحة إثنا عشر قدماً مربعاً و في الجانب الشمالي منه كان يقع المطبخ و حجرة الطعام التي يأكل فيها أفراد الجماعة معاً كل الوجبات وفق نظام دقيق. كلٌ كان يجلس بحسب رتبته ويقوم المعلم الكبير بمباركة الخبز والخمر ثم يتلون صلوات الشكر منتظرين يوم أن يجلسوا إلى مائدة المسيا الذي سوف يأتي لتبدأ مملكة الله.  وإلى الجنوب الغربي كانت توجد خمس حجرات تستخدم كأماكن للدراسة والصلاة. ومن بين هذه الحجرات الخمسة، كانت حجرة النساخ الذين كانوا يقضون أكثر من عشرة ساعات يومياً منهمكون في نسخ التوارة وكتب الأنبياء على رقائق من جلد الماعز موصولة معاً و لفها بعناية في لفائف من الكتان ثم وضعها في أواني فخارية أنيقة يصنعونها بأنفسهم في المستوطنة ذاتها.  وكان في الركن الشمالي الغربي من المبنى، برج حصين يتناوب شباب الجماعة على حراسته نهاراً وليلاً فقد كانت هذه الجماعة تتعرض بين الحين والآخر لهجمات منظمة من القوات الخاصة المدعومة بأفراد الأمن المركزي لتعتقل بعض من قادتهم وهكذا تبقي عليهم ضعفاء لكون الحكومة المركزية في أورشليم تخشى قيامهم، بعد طول الانتظار، بتحقيق مملكة الله بأيديهم. وهذا ما كانت تتبناه جماعة أخرى أكثر عسكرية وهي جماعة الغيوريون التي تتعرض لقمع الدولة أكثر منهم.


بعد افتضاح أمر أخته مريم التي ضبطت مع أحد الرجال بعد طلاقها، وهربها، لم يستطع بنيامين أن يبقى في قريته ليواجه كل يوم نظرات التعيير أو حتى نظرات الشفقة في عيون أهل القرية التي لم يكن لها حديث في ذلك الوقت إلا مريم المرأة المطلقة سيئة السمعة.  دار بخلده في البداية أن يتتبع اخته ليغسل عارة بقتلها. وبالفعل اشترى السكين وهم بالسفر إلى أورشليم بعد أن عرف أنها ذهبت إلى هناك. لكنه لم يقو على ذلك.  لم يقو بنيامين أيضاً على البقاء في قريته فقرر أن ينضم إلى جماعة قمران في صحراء البحر الميت. ومنذ جاء بنيامين ليعيش في هذا المجتمع الديني الصارم اكتسب محبة الجميع من كهنة وعلمانيين فقد كان من أفضل النساخ وكان يقضي الساعات الطويلة ينسخ بدقة كل كلمة من كلمات التوارة والأنبياء، حتى أنه حتى الآن، بالرغم من كونه مستجداً، صاحب الرقم القياسي في النسخ. اليوم تتم السنوات الثلاث التي يمكن بعدها لبنيامين أن يصبح عضواً رسمياً في جماعة قمران فبعد اتمامه لبعض الطقوس المبدئية، ظل بنيامين تحت الاختبار لمدة ثلاث سنوات تنتهي اليوم.
لم يدر بنيامين كيف يشعر اليوم؟ كان قلبه مليء بالفخر والإنجاز لاجتيازه فترة الاختبار، لكنه كان يشعر في الوقت نفسه ببعض من الحيرة ويتساءل إن كان قد اختار الطريق الصحيح في الحياة.
ـ لا بد أنك سعيد اليوم يا بنيامين.
رد بنيامين وهو يغمس ريشته في المحبرة الرومانية المصنوعة من الرخام، ثم تردد قليلاً وأعاد الريشة إلى المحبرة.
ـ لنأخذ بعض الراحة. لا يمكن أن نتحادث هكذا ونحن ننسخ كلمة الله... أصدقك القول يا يوئيل يا أخي. لا أعرف! فأنا لا أكاد أنام هذه الأيام. بمجرد أن يطلق نفير النوم مساءاً وأذهب إلى فراشي، تهاجمني الأفكار كالخفافيش التي تملاً الكهوف المهجورة حولنا.
ـ فيم تفكر يا بنيامين؟
ـ الكثير. إذا توقفت عن التفكير في أسرتي، فإني أفكر في كلام العظات التي نسمعها هنا عن الملكوت الآتي والمعلمين الجدد الذين نسمع بهم مثل يوحنا المعمدان.
ـ ما المشكلة في أسرتك يا بنيامين؟
ـ لا.. لاشيء .. لا عليك بأسرتي.. الأهم الآن هو ملكوت الله. الجميع يتكلمون عن ملكوت الله، ترى من هم الصادقون؟
ـ بالطبع نحن. من المؤكد أن رئيس الكهنة الأورشليمي الفاسد وأتباعه الذين يهتمون بحرفية التوراة لا بروحانيتها لا يملكون الإجابة. نحن أبناء سيدنا إبراهيم الحقيقيين، نحن إسرائيل الحقيقية، وسوف يبدأ الحكم السماوي لكل العالم من هنا. من هذا المكان!
ـ كيف؟ لم يدر بخلدك ذلك السؤال: "كيف؟"
ـ سوف يأتي المسيا وسوف نكون نحن جنوده المخلصون. وسوف نهزم الحكم الفاسد في أورشليم ونحرر كل البلاد اليهودية من سطوة الغرب الروماني الكافر الذي يستخدم حكامنا كدمى يحركها كيفما يشاء. سوف يأتي "النبي" أولاً كما وعد الله موسى ليعد الطريق. ثم يبرز كوكب من يعقوب، ويقوم قضيب من إسرائيل، فيحطم طرفي موآب، ويهلك كل بني الوغى. وننتصر نحن بني النور على أبناء الظلام الكفار من بني الأمم غير اليهود والفاسقين من اليهود المتآمرين والمتعاملين معهم... احمر وجه يوئيل وبدا وكأنه يخطب في مئات التابعين..
ـ يوئيل.. هل سمعت عن يوحنا الذي يُعمد الناس للتوبة في نهر الأردن؟
ـ نعم وقد ذهبت بالفعل واعتمدت منه.. قال يوئيل وهو يحاول أن يخفف من حدّة حماسه
ـ هل فكرت فيم يقول؟
ـ الحقيقة لم أفكر كثيراً. لقد كان كل ما يهمني هو إتمام الطقس. فالمعموديات، كما تعرف، أمر ضروري جداً يا بنيامين للتطهير الحقيقي متى توفرت التوبة الحقيقية والخضوع لله. والحياة المنضبطة.
ـ قبل أن تعظ مرة أخرى يا يوئيل،  دعني أقول لك، فأنا أيضاً قد ذهبت واعتمدت من يوحنا، لكني منذ ذلك الحين وأنا لا أستطيع التوقف عن التفكير فيما يقوله.
ـ الحقيقة أنا لم ألتفت لما يقوله لأنه، كما تعرف، ليس منا.  يبدو من كلامه أنه أقرب للآسينيين. فهم قوم لا يتكلمون عن تحقيق ملكوت الله كما نتكلم. يميلون للتقشف الشديد ولا يتزوجون. لقد سمعت أن المعمدان يلبس لباساً من وبر الإبل ويأكل الجراد والعسل البرّي.
ـ ربما لا يتكلمون مثلما نتكلم عن الحرب والقضاء على الكفار، لكنهم يتكلمون عن ملكوت الله بطريقة أخرى.
ـ طريقة أخرى! أي طريقة؟ يا بنيامين يا صديقي .من رأى منكراً فليغيره بيده، وما أُخِذ بالقوة لا يسترد بغير القوة.
ـ هم أيضاً يتكلمون عن القوة. ولكن بطريقة أخرى.
ـ أي طريقة؟
ـ لقد توقفت كثيراً عند عبارة المعمدان " إن الله قادر أن يصنع من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم!" وأيضاً قوله " إذا كنتم تأتون إليّ للتوبة، فاصنعوا أثماراً تليق بالتوبة ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم: لنا إبراهيم أباً!"
ـ أسمعت ما قاله عن المسيح؟
ـ ماذا قال؟
ـ قال: " أنا أعمدكم بماء للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أحمل حذاءه. هو سيعمدكم بالروح القدس ونار. كيف تكون معمودية الروح القدس هذه؟ ثم.... ألعل هذا هو "النبي" يا يوئيل؟ ألعل هذا هو النبي الموعود في التوراة أن يأتي قبل مجيء المسيح ليعد الطريق أمامه؟
ـ لا أدري
ـ عموماً دعنا نعد إلى عملنا. أنا لا أريد أن يقل إنتاجي، وبالذات في اليوم الذي سوف أنضم فيه رسمياً للجماعة.





ليست هناك تعليقات:

 
google-site-verification: google582808c9311acaa3.html