الخميس، ٢٩ أبريل ٢٠١٠

القبول والموافقة

17
دخل لاوي مكان الجباية وهو عبارة عن كشك خشبي يقع على الحدود بين كفر ناحوم وبيت صيدا وتتم حراسته جيداً بفرقة رومانية مدربة. كان البرد قارصاً في هذا الصباح الغائم من شهر ديسمبر الذي يحتفل الرومان قرب نهايته بالإله ساتورن (زُحَل) وبالولادة الجديدة لقرص الشمس. فلكون النهار يقصر تدريجياً حتى حتى الثاني والعشرين من ديسمبر، كان القدماء يظنون أن الشمس تموت، ثم بعد ذلك اليوم يبدأ في الطول التدريجي فيعتقدون أن قرص الشمس قد بُعِث من جديد.
رتب لاوي السجلات التي يدون فيها الضرائب التي يجمعها من الداخلين والخارجين من كفر ناحوم ونحّى جانباً كتاباً لشيشرون كان يقرأ فيه عندما لا يكون لديه عمل منشطاً لغته اللاتينية التي كان يتعامل بها مع رجال الدولة الرومانيين، وذلك بالطبع بالإضافة إلى اليونانية التي يجب أن يتقنها كل من يمتهن وظيفة عامة فهي اللغة الدولية التي يتكلم بها كل من لا يشتركون في لغة محلية مثل العبرية أو الآرامية أو العربية أو الفارسية أو غيرها.
من بعيد ظهرت مجموعة من الرجال والنساء يسيرون قادمين من بيت صيدا في اتجاه كفر ناحوم وهم يرنمون بصوت آخذ في الارتفاع...

حينئذ امتلأت
أفواهنا ضحكاً
وألسنتنا...
ترنماً..
حينئذ قالوا بين..
الأمم أن الرب..
قد عظم العمل...
مع هؤلاء....
عظم الرب..
العمل معنا..
فصرنا فرحين....
بإلهنا....
تعجب لاوي غاضباً من حماسهم وفرحهم في هذه الساعة المبكرة من ذلك الصباح البارد فخرج من كشك الجباية ووقف رافعاً يديه عالياً وصرخ..
ـ توقفوا عن الغناء وقفوا صفّاً واحداً حتى يتسنى لي مراجعة إقراراتكم الضريبية!
تحولت الجماعة إلى صف واحد منتظم وهم لا يزالوا يضحكون ويدندن بعضهم بصوت خفيض بلحن الترنيمة وبعضهم أخرج إقراره الضريبي الذي كان دائماً ما يحتفظون به لتوقعهم المرور بأماكن الجباية الواقعة على الحدود بين قرى ومدن الجليل التي يسافرون منها وإليها طوال الوقت. وعندما كان يتضح أن على أحدهم ضريبة لم يدفعها، فإنهم يخرجون من الصندوق (أي حسابهم المشترك) الذي كان يقوم عليه التلميذ يهوذا ابن سمعان الذي من مدينة "قريوت" في جنوب يهوذا، ولذلك يسمى بالإسخريوطي. هذا الصندوق كانوا ينفقون منه على أنفسهم وعلى الخدمة، ليدفعوا لمن لم يدفع ضرائبه. وكانت هناك بعض النسوة الموسرات يرافقن يسوع والتلاميذ و ينفقن على الخدمة بسخاء مما جعل الصندوق دائماً يفيض عن الحاجة ويتبرعون منه أيضاً للفقراء.
عندما جاء الدور على يسوع ليمثل أمام لاوي وقبل أن ينظر لاوي إلى أوراقه، نظر يسوع إلى لاوي في عينيه مباشرة وقال: " اتبعني!"
لم يدر لاوي بنفسه إلا وقد ترك كل أوراقه وكتاب شيشرون وأغلق الكشك الخشبي بالمزلاج وسلم المفتاح إلى قائد الفرقة الرومانية ومضى مع يسوع وتلاميذه!
بُهت التلاميذ مما حدث بالرغم من كونهم يعرفون تأثير هذه الكلمة عندما سمعها كل منهم وغيرت حياته تماماً. شعر بعضهم بالفرح والبعض الآخر بالغيرة، فلابد أن هذا التلميذ الجديد الموظف المثقف سوف يحتل مكانة عالية بين التلاميذ ولكن على أي حال غلب مزاج الفرح عليهم وبعد أن تبادلوا الأحاديث مع لاوي وهنئوه بالانضمام إليهم عادوا إلى ترنيمتهم....
الذين يزرعون بالدموع..
يحصدون بالابتهاج...
الذاهب ذهباً بالبكاء..
حاملا ً مبذر الزرع..
مجيئاً يجيء بالترنم..
حاملاً حزمه..
حاول لاوي أن يلتقط اللحن بالرغم من أنه يعرف كلمات هذا المزمور جيداً وسبق أن حفظه في الكُتاب وهو طفل و سمع المصلون يتلونه أثناء صعودهم للهيكل في العيد عندما كان يذهب مع أسرته للعيد وقت كان طفلاً ولمعت في زاوية عينيه دمعتين عندما تذكر أباه وأسرته التي تبرأت منه عندما صار عشاراً.
بدأت بيوت كفر ناحوم تظهر تدريجياً في الأفق بينما كان شريط حياة لاوي كله يمر في مخيلته وعيناه لا تزال ترسلان دموعاً ساخنة بللت تماماً الجزء السفلي من "التلفيحة" الصوفية الفاخرة التي كان يلفها حول رأسه لتقيه من البرد. لم يشأ أي من التلاميذ أن يقترب منه، فهم يعرفون تلك "الحالة" جيداً.




وعندما جاء المساء أقام لاوي مأدبة عظيمة في بيته دعا إليها الكثير من كبار العشارين و أعيان كفر ناحوم احتفالاً بيسوع وبانضمامه لتلاميذه. وكان من أكثر الناس فرحاً هذه الليلة أسرة حلفي (كلوبا) التي اجتمع شملها. بينما لم يشأ يوسي وإفرايم الحضور بالرغم من فرحهما بتوبة لاوي أخيهما غير الشقيق فقد اعتذرا عن حضور المأدبة بسبب حضور الكثير من العشارين غير التائبين.

سمع الكتبة والفريسيين بخبر هذه الحفلة من يوسي وإفرايم، فجاء أحدهم إلى يسوع غاضباً في اليوم التالي.
ـ أيها المعلم الصالح يسوع، أنا من أشد المعجبين بك وأنا أعتبرك من المعلمين المحافظين مثلنا الذين يؤمنون بكل الكتاب وليس مثل الصدوقيين الذين يؤمنون بأسفار موسى فقط، كما أنك مثلنا تؤمن بالحياة الأبدية وليس مثل هؤلاء الماديين الذين يؤمنون فقط بالحياة على هذه الأرض، لكن لنا عليك أمراً واحداً.
ـ ما هو يا عزيزي اسحق؟
ـ أنك تقبل عشارين وتأكل معهم. لقد سمعنا أن لاوي بن حلفي قد صار من تلاميذك وأقام لك ولتلاميذك حفلة دعا إليها الكثير من العشارين غير التائبين الذين يسومون شعبنا العذاب. كيف تسلم عليهم وتأكل معهم على مائدة واحدة؟ ألا يعد قبولك لهم موافقة على ما يفعلون؟ ثم ألا تعلم أن تقاليدنا تقول أن من يأكلون على مائدة واحدة يشاركون بعضهم البعض فيما هو أكثر من مجرد الطعام.
ـ ليس بالضرورة أن يعني قبولي لهم، موافقتي على ما يفعلون. هناك فرق بين القبول والموافقة. وبالنسبة لما تقوله عن اشتراكي معهم فيم هو أكثر من الطعام، نعم، أنا بالفعل أشترك مع هؤلاء العشارين فيما هو أكثر من الطعام.
ـ ماذا تقول؟ تشتر ك معهم؟ كيف؟
ـ نعم أشترك معهم في الإنسانية. أنا إنسان! أنت تعلم أنني أخترت أن ألقب نفسي بابن الإنسان
ـ لكنهم خطاة!
ـ وأنا أتيت من أجل هؤلاء الخطاة
ـ أتيت؟ من أين؟
لم يجب يسوع عن هذا السؤال وراح يقول..
ـ لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى، وأنا لم آت لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة!
ـ هذا الكلام خطير يا يسوع. أنت هنا تقول أن الخطاة مرضى، وبهذا ترفع المسئولية من عليهم
ـ لا.... الإنسان مسئول عن كل ما يفعله!
ـ كيف؟
ـ الخطية مرض واختيار في نفس الوقت
ـ كيف؟
ـ هناك أشياء يرثها الإنسان عن أبيه وأمه وأجيال عديدة سابقة لا ذنب له فيها. هذه الأشياء تجعل الميل للخطية والشهوة شديد ويضغط على الإنسان من الداخل، كما ألأن هناك أيضاً أشياء تحدث للإنسان في طفولته تجعله أكثر عرضة للخطية من غيره كالإساءات والصدمات النفسية و الجنسية وغيرها، كل هذه تجعل مقاومته للخطية ضعيفة.
ـ أنت إذاً تقول أن الإنسان غير مسئول عن الخطية!!
ـ لا .. فبالرغم من كل هذه المؤثرات، يستطيع الإنسان المخلوق على صورة الله أن يسير ضد التيار الذي يضغط عليه من الداخل ومن الخارج. الإنسان يا عزيزي اسحق، ليس كالشجرة يتأثر ببيئته بشكل حتمي. هو يتأثر ولكنه أيضاً يستطيع أن يختار ألا يخضع للمؤثرات ويتغير، بل ويؤثر في الحياة من حوله ويغيرها.. وهنا تكمن المسئولية.
ـ هذا كلام معقد أنا لا أقبله. أنا أعرف أن الحلال بَيِّن والحرام بَيِّن ومن يقع في الحرام فهو آثم مجرم يحتاج للعقاب وليس مريضاً يحتاج للعلاج. هذا الذي تقوله تمييع للحقائق ورخصة للخطاة والآثمين لكي يهربوا من المسئولية. سامحني، أنا لا أستطيع مواصلة الحديث معك. فأنا أخشى على إيماني من مثل هذه الأفكار!
ـ كما شئت يا صديقي. الرب معك!
ـ نعم هو معي، لكني لا أظنه معك!
قام اسحق الفريسي غاضباً وهو يفكر كيف يمنع يسوع هذا من تضليل الشعب.
في الحلقات القادمة سوف نرى العديد من المؤامرات التي حاكها إسحق وغيره من الفريسيين لتشويه صورة يسوع أمام الشعب.

الخميس، ٨ أبريل ٢٠١٠

التلاميذ يتزايدون


16
صرخت صفورة صرخة اهتزت لها قانا كلها إذ ظنت أن عريسها سمعان قد مات فوضع يسوع يده على كتفها ليهدئها:
ـ لا تخافي يا صفورة. لم يمت!
مَدّ يسوع يده ووضعها على ظهر سمعان الملقى على الأرض وأغمض عينيه وراح يصلّي. بعد لحظات بدأ سمعان يتحرك ثم بالتدريج همَّ واقفاً ونظرات الدهشة بادية على وجهه المنتفخ المليء بالكدمات الحمراء والزرقاء.
ـ أنا سعيد أنهم أطلقوا سراحك أخيراً يا سمعان مع أنهم أخذوك للصحراء وتركوك هناك لتعود إلى بيتك في هذه الحالة من الإعياء.
ـ كيف عرفت هذا يا سيدي؟ ثم.  من أنت؟  أظنّ أنني أعرفك!
ـ هل نسيتني يا سمعان؟  أنا يسوع الناصري.
ـ يسوع!  نعم!   آه.. كنت أتمنى أن أراك منذ زمن طويل. لقد ذاع صيتك كثيراً هذه الأيام في كل المنطقة. لم يكن أحد يصدقني عندما أقول أنني لعبت معك في الحارة عندما كنا أطفال. عذراً سيدي!
ـ لا تعتذر يا سمعان يا صديقي. أنا فخور بصداقتك. لقد كانت أيام جميلة. هل تذكر عندما لعبنا ذات يوم ولطخنا ملابسنا بالطين ورفضت أن تذهب إلى بيتك إلا بعد أن نذهب أنا وأمي معك كل لا تضربك أمك؟
ـ نعم                قال سمعان ضاحكاً
ـ كيف حال والدتك؟
ـ هي بخير. لا تزال تسكن في منزلنا القديم حيث حضرتَ عُرسنا. هل تذكر؟  المهم. أنا سعيد جداً لرؤيتك.   إننا  نُعلِّق آمالاً كبيرة عليك يا يسوع،  ولكننا لا نفهم لماذا تضيع وقتك في التعليم وفي شفاء المرضى. المرض الحقيقي الذي نحتاج لأن نشفى منه كلنا هو الاحتلال الروماني والحكومة الفاسدة الموالية للغرب.  العودة للتوراة هي الحل لكل مشكلاتنا والتخلص من الحكم الروماني هو الأمل الذي يراودنا جميعاً لنسترد كرامتنا السليبة. لا بد أن تتحرر القدس من نجاسة الرومان!  لقد انقسمنا بشأنك، ولكن للأسف، فَقَدَ أغلب الغيورين إيمانهم بأنك أنت المخلص الآتي.
ـ سمعان أنا أعلم أنك تبحث عن الحقيقية
ـ نعم
ـ سمعان. إنني أدعوك أن تكون من تلاميذي
وقف سمعان وكأن شيئاً ما حل عليه واغرورقت عيناه بالدموع واحتضن يسوع وبكا بكاءاً شديداً في حضن يسوع كطفل وجد أباه الذي كان يبحث عنه منذ سنين.
كان تلاميذ يسوع يندهشون كثيراً من التأثير الذي تحدثه دعوة يسوع. كأن هذه الدعوة تدخل إلى ما هو أعمق من عقل من يسمعها، فلا يستطيع إلا أن يستجيب لها وكأنها قَدَرُه الذي كان ينتظره منذ أو وُلِد.

قضى يسوع وتلاميذه الليلة ضيوفاً على سمعان القانوي وفي الصباح عندما علمت قانا أن يسوع يبيت في بيت سمعان جاءت المدينة كلها إلى بيت سمعان، فخرج يسوع إلى ساحة المدينة واجتمعت المدينة كلها هناك وقضى يسوع النهار كله يعلم ويشفي وكان تلاميذه حوله يحمونه من تدافع الجموع لكن كان البعض يلقي بنفسه عليه فقط ليلمسه فيشفى.
في صباح اليوم التالي هم يسوع وتلاميذه بمغادرة قانا عائدين إلى كفر ناحوم وقد زاد التلاميذ واحداً هو سمعان القانوي (الغيور سابقاً) هو وزوجته صفورة.

عندما عاد يسوع وتلاميذه إلى كفر ناحوم وجدوا  بعضاً من أقاربهم يزورون أمه مريم التي مكثت بالبيت. كان هؤلاء الأقارب هم عم يسوع (أخو يوسف) وكان يدعى بالآرامية حلفي (وباليونانية كان يسمى هالافاي أو كالافاي أو اختصاراً "كلوبا") وزوجته مريم وولديهما يعقوب ويهوذا تدّاوس (الملقب أيضاً لبّاوس).
كان لهذه الزيارة أثراً بالغاً في يسوع فهذا أول اتصال له بعمه منذ أن وُلِد.  كان حلفي من أشد المعارضين لزواج يوسف من مريم ولذلك قام بمقاطعة يوسف حتى مات لأنه رأى أنه لطخ سمعة العائلة في الطين بزواجه من هذه الزانية المخادعة التي تدعّي أنها حبلت وهي عذراء. لكن ظلت مريم زوجة حلفي على علاقة سر ية بمريم أم يسوع فهن صديقات منذ الطفولة وكانت هذه الصداقة هي السبب وراء ترشيحها لمريم للزواج من أخي زوجها يوسف بعد أن تأخر زواجه حتى تجاوز الخمسين من عمره بسبب زهده عن الحياة الدنيوية وتكريسه أغلب وقته للصوم والصلاة والحياة المتقشفة.
لقد كان يوسف يتبع تقليد الآسينيين في الإنعزال عن العالم،  ولكن بصورة غير رسمية وغير كاملة فقد كان لا يزال  يمارس نشاطه في دكان النجارة لكنه لم يكن يعمل بصورة منتظمة وكان يقضي أغلب وقته في الدكان يصنع محاريث وفؤوس يبيعها بنصف الثمن المعتاد أو حتى يمنحها بالمجان للفلاحين الفقراء الذين لم يكن لديهم المال الكافي بعد أن يقوم عشاروا بنك التسليف الزراعي بالقضاء على كل ثمن محصولهم وتسليفهم بالفائدة الكبيرة لشراء البذور لمواصلة الموسم الزراعي.
كانت مريم زوجة حلفي تدرك أن مريم، لكونها فتاة تقية زاهدة في العالم هي الأخرى لا تهتم كثيراً بالزواج من شاب صغير، لذلك كان من الممكن أن ترضى بخطبة يوسف والحياة معه خاصة بعد أن تدهورت صحته وتوفت أمه وأصبح في حاجة لمن يشاركه حياته.

ظلت القطيعة قائمة حتى وفاة يوسف ونزوح يسوع وأمه من الناصرة إلى كفر ناحوم، لكن ما كان حلفي وأسرته يسمعونه عن مجد الله الذي يحدث على يدي يسوع من شفاء عمي وبرص ومفلوجين وإخراج شياطين وإقامة موتى جعلهم يقولوا، كما كانت تقول كل فلسطين في ذلك الوقت، أن هذا نبيّ لم يقم مثله في إسرائيل ولن يقوم. لذلك شعر حلفي وزوجته بالذنب لأنهم ظلموا مريم ويسوع وظنوا فيهما الظنون. لقد أصبح من الأسهل عليهم الآن تصديق أن يسوع ليس شخصاً عادياً لذلك لم يكن بالمستغرب أن يدخل إلى الدنيا بتلك الطريقة المعجزية.

عندما دخل يسوع ووجد أمه جالسه مع عمه حلفي وزوجته مريم وابنيهما يعقوب ويهوذا هرع ليحتضن عمه وزوجته عمه وابنيهما. تعجب حلفي لكونه عرفهم فهو لم يرهم مطلقاً من قبل.
قال حلفي باكياً:
ـ حقاً يا ولدي أنت ابن الله!
ـ أشكر الله يا عمي أن الله قد فتح أعينكم
ونظر إلى يعقوب ويهوذا تداوس ابني عمه وقال:
ـ هلموا ورائي ننادي بملكوت الله!
قال يعقوب:
ـ لقد كنا نشعر بقوة غريبة تحركنا للمجيء إليك يا يسوع، وها نحن الآن نعرف أن الله يريدنا أن نكون معك. سوف نترك كل شيء ونتبعك!
ثم قالت مريم زوجة حلفي وهي تحاول أن تكفكف دموعها:
ـ هذا هو اليوم الذي كنت أنتظره طوال ثلاثين سنة. لقد كنت اؤمن بعمل الله فيك يا يسوع وكنت أصدق ميلادك من الله، لكن لم تكن لدي الشجاعة للبوح بذلك. لقد كنت أصلي أن يجمعنا الله معاً، وهذا ما حدث. الآن نحن لم نعد فقط لبعضنا البعض كأسرة، لقد عدنا إلى الله وها نحن نشاهد بعيوننا افتقاد الله لشعبه.
قال يسوع:
ـ سوف ترين ما هو أعظم من ذلك حين أمضي.
نظرت مريم زوجة حلفي لمريم أم يسوع باستغراب لأنه لم تفهم ما قاله يسوع، لكن مريم أم يسوع نظرت إليها بابتسامة وربتت على ركبتها قائلة:
ـ مريم يا أختي لا تحاولي أن تفهمي كل ما يقوله يسوع، فهو يقول أشياء غريبة تعلّمنا أن نقبلها كما هي ثم نفهمها فيما بعد!
ثم قال حلفي بلهجة عملية حاسمة:
ـ سوف لن نعود للناصرة، سوف نظل معكم، نحن جميعاً تلاميذك يا يسوع.  سنسير كلنا خلفك، لقد بعنا كل ما لنا في الناصرة وسوف نعيش معكم هنا في كفر ناحوم وكل ما نملك سنضعه تحت تصرفك أنت وتلاميذك وسوف نعيش معاً.


هكذا يتزايد عدد التلاميذ حول يسوع و تقف كل المنطقة على أطراف أصابعها لتشاهد ماذا يحدث عندما تتلامس السماء مع الأرض وتتطابق مشيئة الله في السماء مع مشيئته على الأرض. هذا ما سوف نتابعه في الحلقة القادمة من .. مملكة الله



الأحد، ٤ أبريل ٢٠١٠

سمعان يبحث عن الله..والله يبحث عنه

15

انطلق الرجال السبعة سيراً على الأقدام يمسك كل منهما بعصاه ولا يحمل معه زاداً للطريق إلا قلباً متعلقاً بالله وإن لم يفهم الكثير مما يقوله يسوع. كانت وجهتهم هذه المرة هي قرية قانا في الجليل والتي تقع على بعد نحو ثمانية أميال شمال الناصرة.
من وسط الأحايث المتبادلة بينما كانوا يمشون معاً، ظهرت عبارة يسوع:
ـ يارفاق، سوف ننزل عند سمعان الغيور.
ـ هل هو من الغيورين؟
ـ نعم يا بطرس هو كذلك
ـ اسمح لي يا معلم، هل من المناسب أن ننزل في بيت واحد من هؤلاء. أنت تعلم أن الغيورين رجال عنف وإرهاب ولديهم جناح عسكري ينفذ الاغتيالات في رجال الدولة. ثم أضاف يوحنا، إنهم يريدون أن يحققوا ملكوت الله بالقوة من خلال العنف والإرهاب.
ـ لقد تربيت مع سمعان في الناصرة وكانت أمه صديقة لأمي، ثم بعد أن ذهبوا ليقيموا في قانا كنا نزورهم بين الحين والآخر. حتى أننا ذهبنا لحفل زفافه في قانا منذ سنة.
ـ هل هو ذلك الحفل الذي يُقال أنك حولت فيه الماء إلى خمر؟
ـ نعم
ـ عفواً، اسمح لي أيها المعلم الصالح أن أسألك سؤالاً، فأنت عودتنا دائماً أن نتساءل ونبوح بما في قلوبنا حتى وإن كان اعتراضاً!
ـ تفضل يا نثنائيل على الرحب والسعة.
ـ كيف تحول الماء إلى خمر وسفر الأمثال يقول: " لا تنظر إلى الخمر! "
ـ أحييك على حفظك للكتاب يا نثنائيل، لكن القضية ليست في الخمر في حد ذاته وإنما القضية هي في العين التي تنظر إلى الخمر والقلب الذي يتعلق به ويبحث فيه عن السعادة بينما السعادة هي في معرفة الله. وليست الخمر فقط بل المال أيضاً والجنس والشهرة والنجاح. كل هذه الأشياء من الممكن أن تتحول بسبب القلب المريض البعيد عن الله إلى آلهة تتسلط علينا.
ـ سمعت أيضاً أنك قلت للخدم عندما نفذ الخمر أن يملأوا أجران الوضوء بالماء ثم حولته إلى خمر. أعذرني سيدي، ألا تعتبر هذه إهانة للدين؟
ـ أنا لم أقصد أن أهين الدين فأنا أيضاً يهودي ورجل دين، لكن الوضوء والغسل ككل الطقوس والتقاليد، لم تكن إلى رموز تشير إلى الحقيقة. لقد أردت أن أقول أن الطهارة الحقيقية هي طهارة القلب والتي تظهر من خلال محبة الله والبشر والتعلق بالخير والحق والجمال. لم يكن الوضوء في ديننا اليهودي قبل الصلاة أو قبل الطعام إلا إشارة جسدية لهذه الحقيقة الروحية. أما الآن فقد حان الوقت لكي يختبر الإنسان الطهارة الحقيقية فليس ينجس الجسد تراباً أو عرق أو إفرازات، وإنما ما ينجسه هو الكبرياء والتعالي والتصلف، ومن سخريات الحياة أن يكون الدين نفسه وسيلة للكبرياء والتعالي وتقسيم الناس إلى أناس أفضل وأنا أقل.
عزيزي سمعان، لا يدنس جوف الإنسان ما يدخل إليه من أنواع طعام كلحم الخنزير أو الأطعمة البحرية غير الطاهرة أو أكل اللحوم مع منتجات الألبان و غير ذلك من طقوس الأكل اليهودية. كل هذه تدخل إلى الجوف ثم إلى الخلاء وهذا يطهر كل شيء. إن ما ينجس الإنسان فعلاً هو ما يخرج منه، من كلمات تجرح وأفعال تهين الإنسان. لقد قصدت أن أعلن أن زمن الرموز انتهى وجاء زمن الحقيقة
ـ نعود لسمعان القانوي والغيورين، ما رأيك يا معلم فيهم وفيم يفعلون؟
ـ بالطبع أنا لا أؤمن بنشر الإيمان بحد السيف فما أُخِذ بالسيف بالسيف يؤخذ، والدولة القوية في عصر، تكون ضعيفة في عصر آخر وتشكو من نفس كأس الظلم والهوان التي سقته لغيرها في وقت سابق. لكنني أحب سمعان وأرى أنه يبحث عن الله والله أيضاً يبحث عنه.

قاربت الشمس على المغيب عندما دخل يسوع وتلاميذه قانا الجليل، حيث قادهم يسوع إلى منزل سمعان الغيور. طرق يسوع الباب، لم يفتح أحد، ثم طرق مرة أخرى. وبعد الطرقة الثالثة فُتِح الباب وظهرت امرأة شابة خائفة.
ـ السلام لكم يا سيدتي
ـ ولكم السلام. من؟ ..من أنتم؟
ـ نحن أصدقاء لسمعان جئنا من كفر ناحوم، هل هو موجود؟
ـ ألستم تعرفون، سمعان في السجن منذ ثلاثة شهور! لقد قام الحزب الحاكم بحملة اعتقالات لقيادات الغيوريين لكي يمنعهم من خوض الانتخابات النيابية القادمة. أقصد.. هذا.. هذا ما يقوله الناس.. لست أدري!
ـ أعرف ذلك، ولكنني أعرف أيضاً أنه سوف يخرج الليلة، لذلك جئت مع تلاميذي لنقابله.
ـ تلاميذك؟ ....أنت معلم دين إذاً؟
ـ نعم أنا يسوع الناصري. لقد حضرت زفافك منذ عام. ألا تذكرينني؟
ـ يسوع! آه.. نعم ..أ. لـ.. لقد تغيرت كثيراً يا معلم! بالفعل، لقد باركت زفافنا وكان زفافاً سعيداً بحضورك المبارك. لكن.. أنا خائفة جداً على سمعان فهو مُتَّهم في اغتيال أحد رجال الحزب الهيرودسي في قانا وأخشى أن يعدموه.
ـ لا تخافي. لن يموت!
بعد أن دعت صفورة زوجة سمعان التلاميذ للدخول وأعدت لهم مائدة العشاء قصت لهم باكية الكثير عن حياتهما وعن سمعان الذي كان يغيب عنها بالأسابيع الطويلة في مهام تكلفه بها الجماعة وكيف كانت تحاول أن تثنيه عن انخراطه في هذا الطريق، لكن بلا جدوى.
سمع الجميع طرقاً على الباب فراحت صفورة تفتح الباب وإذا به سمعان يدخل ويظهر عليه الإعياء الشديد. وفجأة سقط على الأرض أمام الجميع وظن الجميع أنه مات!
ماذا حدث لسمعان الغيور وما هي التطورات المثيرة التي سوف تحدث في حياته؟ هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة من مملكة الله.
 
google-site-verification: google582808c9311acaa3.html