الخميس، ٢٩ أبريل ٢٠١٠

القبول والموافقة

17
دخل لاوي مكان الجباية وهو عبارة عن كشك خشبي يقع على الحدود بين كفر ناحوم وبيت صيدا وتتم حراسته جيداً بفرقة رومانية مدربة. كان البرد قارصاً في هذا الصباح الغائم من شهر ديسمبر الذي يحتفل الرومان قرب نهايته بالإله ساتورن (زُحَل) وبالولادة الجديدة لقرص الشمس. فلكون النهار يقصر تدريجياً حتى حتى الثاني والعشرين من ديسمبر، كان القدماء يظنون أن الشمس تموت، ثم بعد ذلك اليوم يبدأ في الطول التدريجي فيعتقدون أن قرص الشمس قد بُعِث من جديد.
رتب لاوي السجلات التي يدون فيها الضرائب التي يجمعها من الداخلين والخارجين من كفر ناحوم ونحّى جانباً كتاباً لشيشرون كان يقرأ فيه عندما لا يكون لديه عمل منشطاً لغته اللاتينية التي كان يتعامل بها مع رجال الدولة الرومانيين، وذلك بالطبع بالإضافة إلى اليونانية التي يجب أن يتقنها كل من يمتهن وظيفة عامة فهي اللغة الدولية التي يتكلم بها كل من لا يشتركون في لغة محلية مثل العبرية أو الآرامية أو العربية أو الفارسية أو غيرها.
من بعيد ظهرت مجموعة من الرجال والنساء يسيرون قادمين من بيت صيدا في اتجاه كفر ناحوم وهم يرنمون بصوت آخذ في الارتفاع...

حينئذ امتلأت
أفواهنا ضحكاً
وألسنتنا...
ترنماً..
حينئذ قالوا بين..
الأمم أن الرب..
قد عظم العمل...
مع هؤلاء....
عظم الرب..
العمل معنا..
فصرنا فرحين....
بإلهنا....
تعجب لاوي غاضباً من حماسهم وفرحهم في هذه الساعة المبكرة من ذلك الصباح البارد فخرج من كشك الجباية ووقف رافعاً يديه عالياً وصرخ..
ـ توقفوا عن الغناء وقفوا صفّاً واحداً حتى يتسنى لي مراجعة إقراراتكم الضريبية!
تحولت الجماعة إلى صف واحد منتظم وهم لا يزالوا يضحكون ويدندن بعضهم بصوت خفيض بلحن الترنيمة وبعضهم أخرج إقراره الضريبي الذي كان دائماً ما يحتفظون به لتوقعهم المرور بأماكن الجباية الواقعة على الحدود بين قرى ومدن الجليل التي يسافرون منها وإليها طوال الوقت. وعندما كان يتضح أن على أحدهم ضريبة لم يدفعها، فإنهم يخرجون من الصندوق (أي حسابهم المشترك) الذي كان يقوم عليه التلميذ يهوذا ابن سمعان الذي من مدينة "قريوت" في جنوب يهوذا، ولذلك يسمى بالإسخريوطي. هذا الصندوق كانوا ينفقون منه على أنفسهم وعلى الخدمة، ليدفعوا لمن لم يدفع ضرائبه. وكانت هناك بعض النسوة الموسرات يرافقن يسوع والتلاميذ و ينفقن على الخدمة بسخاء مما جعل الصندوق دائماً يفيض عن الحاجة ويتبرعون منه أيضاً للفقراء.
عندما جاء الدور على يسوع ليمثل أمام لاوي وقبل أن ينظر لاوي إلى أوراقه، نظر يسوع إلى لاوي في عينيه مباشرة وقال: " اتبعني!"
لم يدر لاوي بنفسه إلا وقد ترك كل أوراقه وكتاب شيشرون وأغلق الكشك الخشبي بالمزلاج وسلم المفتاح إلى قائد الفرقة الرومانية ومضى مع يسوع وتلاميذه!
بُهت التلاميذ مما حدث بالرغم من كونهم يعرفون تأثير هذه الكلمة عندما سمعها كل منهم وغيرت حياته تماماً. شعر بعضهم بالفرح والبعض الآخر بالغيرة، فلابد أن هذا التلميذ الجديد الموظف المثقف سوف يحتل مكانة عالية بين التلاميذ ولكن على أي حال غلب مزاج الفرح عليهم وبعد أن تبادلوا الأحاديث مع لاوي وهنئوه بالانضمام إليهم عادوا إلى ترنيمتهم....
الذين يزرعون بالدموع..
يحصدون بالابتهاج...
الذاهب ذهباً بالبكاء..
حاملا ً مبذر الزرع..
مجيئاً يجيء بالترنم..
حاملاً حزمه..
حاول لاوي أن يلتقط اللحن بالرغم من أنه يعرف كلمات هذا المزمور جيداً وسبق أن حفظه في الكُتاب وهو طفل و سمع المصلون يتلونه أثناء صعودهم للهيكل في العيد عندما كان يذهب مع أسرته للعيد وقت كان طفلاً ولمعت في زاوية عينيه دمعتين عندما تذكر أباه وأسرته التي تبرأت منه عندما صار عشاراً.
بدأت بيوت كفر ناحوم تظهر تدريجياً في الأفق بينما كان شريط حياة لاوي كله يمر في مخيلته وعيناه لا تزال ترسلان دموعاً ساخنة بللت تماماً الجزء السفلي من "التلفيحة" الصوفية الفاخرة التي كان يلفها حول رأسه لتقيه من البرد. لم يشأ أي من التلاميذ أن يقترب منه، فهم يعرفون تلك "الحالة" جيداً.




وعندما جاء المساء أقام لاوي مأدبة عظيمة في بيته دعا إليها الكثير من كبار العشارين و أعيان كفر ناحوم احتفالاً بيسوع وبانضمامه لتلاميذه. وكان من أكثر الناس فرحاً هذه الليلة أسرة حلفي (كلوبا) التي اجتمع شملها. بينما لم يشأ يوسي وإفرايم الحضور بالرغم من فرحهما بتوبة لاوي أخيهما غير الشقيق فقد اعتذرا عن حضور المأدبة بسبب حضور الكثير من العشارين غير التائبين.

سمع الكتبة والفريسيين بخبر هذه الحفلة من يوسي وإفرايم، فجاء أحدهم إلى يسوع غاضباً في اليوم التالي.
ـ أيها المعلم الصالح يسوع، أنا من أشد المعجبين بك وأنا أعتبرك من المعلمين المحافظين مثلنا الذين يؤمنون بكل الكتاب وليس مثل الصدوقيين الذين يؤمنون بأسفار موسى فقط، كما أنك مثلنا تؤمن بالحياة الأبدية وليس مثل هؤلاء الماديين الذين يؤمنون فقط بالحياة على هذه الأرض، لكن لنا عليك أمراً واحداً.
ـ ما هو يا عزيزي اسحق؟
ـ أنك تقبل عشارين وتأكل معهم. لقد سمعنا أن لاوي بن حلفي قد صار من تلاميذك وأقام لك ولتلاميذك حفلة دعا إليها الكثير من العشارين غير التائبين الذين يسومون شعبنا العذاب. كيف تسلم عليهم وتأكل معهم على مائدة واحدة؟ ألا يعد قبولك لهم موافقة على ما يفعلون؟ ثم ألا تعلم أن تقاليدنا تقول أن من يأكلون على مائدة واحدة يشاركون بعضهم البعض فيما هو أكثر من مجرد الطعام.
ـ ليس بالضرورة أن يعني قبولي لهم، موافقتي على ما يفعلون. هناك فرق بين القبول والموافقة. وبالنسبة لما تقوله عن اشتراكي معهم فيم هو أكثر من الطعام، نعم، أنا بالفعل أشترك مع هؤلاء العشارين فيما هو أكثر من الطعام.
ـ ماذا تقول؟ تشتر ك معهم؟ كيف؟
ـ نعم أشترك معهم في الإنسانية. أنا إنسان! أنت تعلم أنني أخترت أن ألقب نفسي بابن الإنسان
ـ لكنهم خطاة!
ـ وأنا أتيت من أجل هؤلاء الخطاة
ـ أتيت؟ من أين؟
لم يجب يسوع عن هذا السؤال وراح يقول..
ـ لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى، وأنا لم آت لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة!
ـ هذا الكلام خطير يا يسوع. أنت هنا تقول أن الخطاة مرضى، وبهذا ترفع المسئولية من عليهم
ـ لا.... الإنسان مسئول عن كل ما يفعله!
ـ كيف؟
ـ الخطية مرض واختيار في نفس الوقت
ـ كيف؟
ـ هناك أشياء يرثها الإنسان عن أبيه وأمه وأجيال عديدة سابقة لا ذنب له فيها. هذه الأشياء تجعل الميل للخطية والشهوة شديد ويضغط على الإنسان من الداخل، كما ألأن هناك أيضاً أشياء تحدث للإنسان في طفولته تجعله أكثر عرضة للخطية من غيره كالإساءات والصدمات النفسية و الجنسية وغيرها، كل هذه تجعل مقاومته للخطية ضعيفة.
ـ أنت إذاً تقول أن الإنسان غير مسئول عن الخطية!!
ـ لا .. فبالرغم من كل هذه المؤثرات، يستطيع الإنسان المخلوق على صورة الله أن يسير ضد التيار الذي يضغط عليه من الداخل ومن الخارج. الإنسان يا عزيزي اسحق، ليس كالشجرة يتأثر ببيئته بشكل حتمي. هو يتأثر ولكنه أيضاً يستطيع أن يختار ألا يخضع للمؤثرات ويتغير، بل ويؤثر في الحياة من حوله ويغيرها.. وهنا تكمن المسئولية.
ـ هذا كلام معقد أنا لا أقبله. أنا أعرف أن الحلال بَيِّن والحرام بَيِّن ومن يقع في الحرام فهو آثم مجرم يحتاج للعقاب وليس مريضاً يحتاج للعلاج. هذا الذي تقوله تمييع للحقائق ورخصة للخطاة والآثمين لكي يهربوا من المسئولية. سامحني، أنا لا أستطيع مواصلة الحديث معك. فأنا أخشى على إيماني من مثل هذه الأفكار!
ـ كما شئت يا صديقي. الرب معك!
ـ نعم هو معي، لكني لا أظنه معك!
قام اسحق الفريسي غاضباً وهو يفكر كيف يمنع يسوع هذا من تضليل الشعب.
في الحلقات القادمة سوف نرى العديد من المؤامرات التي حاكها إسحق وغيره من الفريسيين لتشويه صورة يسوع أمام الشعب.

هناك تعليقان (٢):

Ramy يقول...

جميل جدا طبعا

كل اللى بقرأه حاليا بيوجهنى انى فى الطريق اللى المفروض كنت فية فى الأول

انا عاوز يقولى اتبعنى

انا عايز يقتحم حياتى

انت عارف انا كل حاجة فى حياتى حصلتلى


بتبين لى قد اية ربنا بيحبنى بس

المشكلة مش قادر احبة زى ما بيحبنى

بالرغم انى بحاول اتقرب منة جدا اليومين دول

دة اللى تعبنى جدا ان حبى لية اقل بكتير جدا جدا جدا من اللى يستحقة منى

انا أتغيرت شوية عن الأول

ممكن اللى حواليا مش حاسين قوى لكن انا داخليا حاسس

شكرا جدا

غير معرف يقول...

A man is still breathing
اولا احب اعبر عن اعجابي لاسلوب العرض للاحداث الحصل في حياة السيد المسيح وديه حاجة كويسة لان كتير من الناس مش بتعرف الكلام ده لان الناس اتعودت انها تسمع وتتناقل الثقافة عن طريق الورث عن فولان عن فولان الا انه مش بتدور بنفسها لكن مجرد سمع من قول عن واحد عرف من سخص سمع ....... الخ
ثانيا تعليق بسيط عن جملة في تعليق الاخ سامي كان بيقول انا عايز يقتحم حياتي السيد المسيح " او الله عامة " لا يمكن ان يقتحم حيات الانسان الله خلق الانسان هلي صورته " اي صفاتة " ال منها الارادة واللع بيحترم ده اوي مش ممكن انه يقتحم حياتك غصب لكنه بيقول ها انا ذا واقف علي الباب واقرع ان سمع احد صوتي وفتح الباب ادخل واتعشي معه وهو معي وده ال كان بيوضحة الدكتور اوسم في كلامة ان الانسان حرة في اختيارات رغم الضعوط الواقعة عليه

 
google-site-verification: google582808c9311acaa3.html