الخميس، ٢٥ فبراير ٢٠١٠

مملكة الأرض ومملكة السماء


12    

بدأ يسوع يطوف كل قرى ومدن الجليل منطلقاً من كفر ناحوم فزار بيت صيدا وكورزين والكثير من قرى الجليل،  فيما عدا الناصرة،  يعلم في مجامعهم وينادي بحلول مملكة الله. فذاع خبره في كل القرى والمدن المحيطة فكان الجميع يحضرون له السقماء والمرضى المصابين بأمراض وأوجاع مختلفة. المشلولين والمرضى النفسيين والعمي والصم والبكم وكان يشفيهم جميعاً فتبعته جموع كثيرة من الجليل ومن العشر المدن التي كانت تسكنها غالبية وثنية،  ومن أورشليم العاصمة ومن كل اليهودية ومن الأراضي الواقعة عبر نهر الأردن.

اشترى يسوع وأمه بيتاً صغيراً بالمال القليل الذي حصلا عليه من بيع بيتهم في الناصرة ودكان النجارة الخاص بيوسف الذي توفى منذ حوالي سنة.  وبجوار بيت يسوع اشترى سمعان وزوجته بيتاً آخر صغير. أما التلاميذ من غير المتزوجين فكانا ضيوفاً في بيت يسوع وبيت سمعان وكانوا جميعاً يعيشون معاً حياة شبه مشتركة ويطوفون مدن الجليل معاً ويعودون إلى كفر ناحوم لأيام قليلة بعدها ينطلقون في سبيل الله مرة أخرى.  وعندما كانوا يسافرون كانوا يقيمون في بيوت الناس في البلاد التي كانوا يذهبون إليها و يأكلون مما يقدم لهم أهل البلاد التي يزوروها. لم يحملوا ثياباً ولا  أحذية إضافية ولا فضة ولا ذهباً بل كانوا يقدمون خدمتهم وتعليمهم مجاناً.



وكان يسوع يخرج إلى الخلاء في البلاد التي كان يذهب إليها ويجتمع إليه الناس من كل مكان خارج البلدة لأن الشوارع الضيقة داخل تلك البلاد الصغيرة لم تكن تتسع للجموع التي تتجمع وتسير خلف يسوع من بلد إلى بلد. وكان دائماً ما يصعد إلى الجبال أو التلال ليعلم وتسمعه الجموع الملتفة حول الجبل أو يأخذ قارباً وينزل به إلى بحر الجليل وتتجمع الناس على الشاطئ ليسمعوه. وكان تلاميذ يسيرون حوله ليشقوا له طريقاً بين الجموع حيث كانت جموع الناس من مرضى وسقماء يجرون ويلقون بأنفسهم على يسوع لكي يلمسوه فيشفوا.

وذات يوم كان يسوع يعلم الجموع فأبصر رجلاً أبرص أكل المرض يداه وزحف على عينيه فأفقدهما البصر لكنه كان لا يزال يسمع.  فوقف خائفاً بعيداً عن الجمع لا يجرؤ أن يقترب لأن القانون كان يقضي ألا يقترب هؤلاء البرص من الناس لكي لا ينقلوا العدوى،  بل كانوا ينادون أثناء مشيهم في المدن.. أنا نجس! ... انا نجمس!  لكي يسمع الناس فيبتعدون.  وكان من ينسى أن يفعل ذلك يرجم.



عندما سمع هذا الأبرص بيسوع جازف بالاقتراب من الجمع وهو يقول خائفاً .... أنا نجس! .... أنا نجس! ....فلاحظ يسوع صراخه حتى أنه كان كاد يشوش على تعليم يسوع. فاجتاز يسوع بين الجموع حتى وصل إليه. فما كان من الرجل الأبرص إلا أن سجد إلى الأرض أمامه.

ـ  يا سيد إن أردت تقدر أن تطهرني

فمد يسوع يده إليه ولمسه

ـ أريد فاطهر

فذهب برصه في الحال

ـ  لماذا لمستني؟ كنت تستطيع أن تقول فقط أن أطهر فأطهر. أنا أعلم أنك تشفي بكلمة!

أجابه يسوع وهو يستمر في لمسه يديه المقروحتين وعيناه التي اغلقتها الأنسجة الليفية الناتجة من الالتهاب.

ـ نعم يا بني. جلدك يحتاج فقط لكلمة، أما قلبك فيحتاج للكثير من اللمسات.

بكى الأبرص واحتضن يسوع. فراح يسوع يربت على كتفه وشعره، ثم أمسك يسوع بكتفيه وأعاده للوراء ونظر إلى عينيه اللتان بدأتا تظهران من خلف الأنسجة الملتهبة كالشمس التي تظهر من وراء الغيوم.

ـ أنظر. لا تقل لأحد ولكن اذهب أر نفسك للكاهن وقدم القربان الذي أمر به موسى شهادة للشعب. وإن سألك أحد ما الذي حدث. قل شفاني الله!



عندما عاد يسوع إلى بيته في كفر ناحوم كان في إحدى الليالي نائماً عندما سمع قرعاً شديدا ًعلى الباب حتى كاد ينكسر، فقام وهو شبه نائم يحاول أن يفهم ما يحدث متحسساً طريقه في الظلام حتى وصل إلى المزلاج ففتحه وفي ضوء القمر بالخارج رأى زائر منتصف الليل هذا. لقد كان السيد شمعي بن برخي التاجر الكبير.

 مفاجأة!

ـ أهلاً يا سيد شمعي  خير.... ما الخطب؟

ـ أريد أن أتحدث معك أيها المعلم. لقد استئذنت من تلميذك الساهر عند الباب أن أتحدث إليك قليلاً. هل لي أن أدخل؟

ـ تفضل !

ـ أنا آسف لمجيئي في هذا الوقت، فأنت تعلم، لا أستطيع أن آت أثناء النهار. أنت تدرك بالطبع حساسية مركزي السياسي.

ـ نعم أدرك ذلك

ـ سوف أدخل في الموضوع مباشرة. أنت تعلم أني مرشح لعضوية مجلس الشعب عن دائرة كفر ناحوم.

ـ نعم أعلم

ـ وتعلم أيضاً أنني مرشح الحزب الحاكم، ولابد أن أفوز بهذه الانتخابات

ـ أعلم. وستفوز

ـ أنا أيضاً أدرك أن شعبيتك في كل الجليل فاقت كل تصور. وأنا أحترمك وأقدرك جداً. بل أنا أرى، وأرجو أن يكون رأيي هذا بيننا فقط، أنك بالفعل نبيّ عظيم وأن الله كما يقول العامة، قد افتقد شعبه بإرسالك لنا.

ـ باب التوبة مفتوح أمام الجميع، ولكن القليلون هم الذين سوف يدخلون من هذا الباب الضيق ويسيرون الطريق الصعب الصاعد لأعلى.

ـ لا افعم

ـ الباب ضيق والطريق كرب لأنه ضد شهوات الإنسان التي توحشت بسبب الانفصال عن الله،  أما الباب الواسع والطريق الرحب السهل فهو الطريق الذي يسير بعيداً عن الله نحو الهاوية.

بدا بعض الارتباك البسيط على وجه السيد شمعي، فحاول العودة مرة أخرى إلى الموضوع الذي جاء من أجله.

ـ باختصار ودون لف أو دوران. أنا أحتاج لشعبيتك لكي أفوز في الانتخابات. أريدك أن تظهر معي في الندوات واللقاءات. لا تحتاج لأن تقول شيئاً بل يرى الناس أنك معي ونلتقط بعض الصور التي نعلقها هنا وهناك. لن يكلفك الأمر شيئاً، بل ربما يكون مربحاً. أنت بالطبع تحتاج لبعض التبرعات للإنفاق على رحلاتك المتعددة في كل قرى ومدن الجليل.    قال شمعي هذا وهو ينظر نظرة تجعله يبدو كمن يدرك بواطن الأمور في كل مجالات الحياة.

ـ أنا أعلم أنك تظن أن تحتاج إليّ فقط للفوز في الانتخابات،  ولكن الحقيقة هي أن ما تحتاجه مني أكثر  وأهم بكثير من ذلك.

ـ لا لست أريد إلا النجاح في الانتخابات.

ـ أنا أعلم ذلك.  وسوف تنجح في الانتخابات بمساعدتي أو بدونها. أنت تبحث عن مملكة الأرض وسوف تحصل عليها. أما ما أهتم به أنا فهو أمر آخر. إنها مملكة الله التي تدوم إلى الأبد.

أيقن السيد شمعي أنه يتكلم لغة  أخرى غير التي يتكلمها يسوع، وبفطنة التاجر الشاطر،  تأكد أن الصفقة التي جاء ليبرمها لن تتم، فقرر أن ينسحب بهدوء وأناقة، كما أنه اطمأن لتأكيد يسوع له أنه سيفوز في الانتخابات فهي على أي حال كلمة من نبيّ.

ـ  طاب مساؤك أيها المعلم وأعتذر مرة أخرى على الإزعاج. أرجو أن تسامحني.

ـ  لا عليك. طاب مساؤك يا أخي. سوف أصلي من أجلك. لا للفوز في الانتخابات بل لما هو أهم من ذلك.



وفي طريق يسوع إلى فراشه، نادته مريم أمه

ـ  يسوع

ـ  نعم يا أماه، هل أنت مستيقظة؟

ـ  نعم.  أوقظني القرع على الباب

ـ  أعتذر يا أمي لما أسببه لك من إرهاق. عودي لنومك

ـ يا بنيّ أنا أشفق عليك. الحياة بهذه الطريقة ضرب من الانتحار. هوِّن عليك يا حبيبي.

ـ إنه وقت للعمل يا أماه. يجب أن أعمل عمل الذي أرسلني مادام الوقت مناسباً،.  يأتي بعده وقت  لا يستطيع أحد فيه أن يعمل.

ـ ليقوك الله يا ولدي!

ـ تصبحين على خير يا أماه.                

إلى اللقاء في الحلقة القادمة من مملكة الله


 
google-site-verification: google582808c9311acaa3.html