الخميس، ٢١ يناير ٢٠١٠

كفر ناحوم

11
كانت الشمس قد جلست مستريحة في عرشها في كبد السماء ترسل أشعتها القوية في ظهر هذا اليوم من شهر يونيو القائظ والذي اختاره يسوع ليسافر إلى كفر ناحوم. كان مدخل كفر ناحوم لا يكاد يرى من سحب الغبار التي تخلفها وراءها سيارات التوك توك التي تتسلق المرتفعات الترابية للشارع الرئيسي المؤتدي إلى كفر ناحوم بعد أن قررت البلدية شق بطنه بالطول لتغيير مواسير المجاري والتي ظهر بعضها رابضاً على جانبي الشق الهائل كديناصورات ضخمة سوداء من الفخار المطلي بطبقة سوداء من الدهان. راحت بعض سيارات التوك توك تأخذ طريقها إلى قلب المدينة بينما تجمع عدد كبير من هذه السيارات الصغيرة السوداء والبنية الداكنة عند الموقف الواقع في بداية الشارع كمجموعة من الذباب تتجمع حول فم طفل صغير مريض كآلاف الأطفال الذين تذخر بهم كفر ناحوم.

كفر ناحوم بلدة صغيرة تقع على الشمال الغربي من بحر الجليل وتبعد أكثر قليلاً من ميلين عن بيت صيدا وهي تقع على ما يُطلق عليه "طريق البحر" وهو الطريق الممتد من دمشق إلى بتوليمايس و قد أعطاها هذا الموقع أهمية استراتيجية وتجارية كبرى. وكحال المدن الساحلية التي يتشغل أهلها بالتجارة، لم يكن لشعب هذه المدينة اهتماماً كبيرا بالأمور الروحية. وبالرغم من وجود مجمع يهودي كبير بها، وبالرغم من أن شعبها كان يؤدي كل الفروض الدينية إلا أن قلوبهم لم يكن بها أي شوق لمعرفة الله.

بدأت لافتات الانتخابات المكتوبة غالباً باللون الأحمر تظهر في كفر ناحوم وتتكاثر مثلما تتكاثر البثور الحمراء ذات الرؤوس الصديدة البيضاء على وجه مريض بنقص المناعة. ولم تعد تظهر الأشجار وأكشاك الكهرباء بسبب الملصقات المليئة بالكلمات الرنانة والوعود البرّاقة وصور المرشحين الذين تطل وجوههم بجدية وصرامة بالغة والكثيرون منهم لا تدري لماذا تشبه صورهم كثيراً الصور التي تأتي في صفحات الحوادث بالصحف اليومية!
بالطبع النسبة الأكبر من اللافتات من نصيب مرشح الحزب كبير التجار شمعي بن برخي، الذي هو أيضاً رئيس الغرفة التجارية و رئيس مجلس إدارة نادي كفر ناحوم الذي ينافس كبرى أندية أورشليم العاصمة في الدوري اليهودي. أما رئاسة مجلس المدينة فهي من نصيب ابنه الأكبر رأوبين بين برخي ومديرية الأمن يرأسها الابن الأوسط داود بن برخي في حين لم يرد الابن الأصغر شمعون الانخراط في سلك الوظائف الرسمية واكتفى بإدارة شركة برخي تورز السياحية.
نزل يسوع وتلاميذه ومنهم بطرس وزوجته ضيوفاً في بيت حماة بطرس في كفرناحوم وبمجرد وصولهم ذهب يسوع عادة إلى مجمع البلدة وصار يعلم. فبهتوا من تعليمه لأنه كان يعلم كلام الله كمن هو صاحب الكلام فيدخل إلى المعنى مباشرة ويلمس القلوب. لقد كان يسوع يدخل بكلام التوارة إلى قلب الإنسان كمن هذا الكلام كلامه وكمن يعرف قلب الإنسان الذي يستقبل الكلام.
فصرخ واحد من الجمع قائلاً
ـ ما لنا ومالك أيها الناصري؟ أن أعرف أنك أنت القدوس المعين من الله. أعرف أنك الوحيد المولود من الله بلا أب بشري، والوحيد الذي بلا خطية منذ الولادة إلى الممات لكننا مع ذلك لا نريدك!
ـ لست أنت الذي تتكلم وإنما ذاتاً أخرى بداخلك تتكلم ولها اقول أن تخرس وتدعك تؤمنه بما تعرف أنه الحق.!
ولما خرجوا من المجمع وكان اليوم سبت ذهبوا إلى بيت حماة بطرس في كفر ناحوم فوجدوا حماة بطرس مريضة بحمى غريبة أصابتها منذ أسابيع ولم تفارقها. فدخل يسوع إلى غرفة نومها.
ـ ما بك يا خالة يوكابد؟
ـ لا أدري يا بني؟ هل أنت يسوع صديق سمعان؟ يبدو من مظهرك أنك رجل دين
ـ فراستك واضحة يا خالة.
ثم قال باسماً
ـ كيف لا تعرفين ذلك واسمك يوكابد على اسم والدة النبي موسى.
ضحكت الخالة يوكابد. وابتسم يسوع ومد يده ووضع يده على جبهتها. ظنته الخالة يوكابد يجسها ليعرف شدة حرارتها، ولكن بمجرد أن مد يسوع يده ولمس جبهتها، فارقتها الحمى حالاً. ومد لها يده وأقامها من فراشها.
ـ ما هذا؟ أشعر بقوة غريبة في جسدي. لقد عدت أفضل مما كنت. مجداً للرب. أنت بحق نبيّ أيها المعلم الصالح. قامت الخالة يوكابد يملؤها النشاط وأخذت تعد وليمة ليسوع وأمه مريم وتلاميذه وقضى الجميع أمسية جميلة يأكلون ويضحكون.
سرى خبر شفاء حماة سمعان في البيوت المجاورة كما تسري النار في أعواد الذرة الجافة التي يجمعها أهل هذه المدينة الريفية فوق أسطح منازلهم كمخزون استراتيجي للوقود. وأغلب بيوت كفر ناحوم المتواضعة مبنية من الطوب الذي أتقنوا صناعته وخبزه كما كان أجدادهم يفعلون في مصر منذ مئات السنين. فأتوا بعد غروب الشمس، أي بعد انقضاء السبت، ومعهم كل المرضى والسقماء والذين تعذبهم أفكار شريرة ولا يستطيعون التحكم في أنفسهم، والذين شخصياتهم منقسمة ومفككة.

واجتمعت المدينة كلها عند الباب. فشفى مرضى كثيرين وأعاد السلام لقلوب كسيرة. ومنذ ذلك الحين كان على التلاميذ أن يعملوا بجد لتنظيم خدمة يسوع وإلا فلن يحصل على أي راحلة أو يأكل أي طعام لأن كل الناس في كل المنطقة كانت تريد أن تأتي إليه فكل مريض كان يلمس يسوع كان يشفى مباشرة!

اتخذ يسوع ورفاقة من كفر ناحوم قاعدة انطلاق لخدمتهم التي بدأوا فيها يجوبون كل قرى الجليل ثم يعودوا إلى كفر ناحوم ومنها ينطلقون. في الحلقات القادمة سوف نتابع هذه الرحلات.

الخميس، ١٤ يناير ٢٠١٠

القبض على المعمدان ويسوع يعود إلى الناصرة

10
كعادته كل يوم، كان يوحنا المعمدان قد قضى الليل كله في الصلاة قبل أن يبدأ يومه في تعميد الذين كانوا يأتون إليه من كل مكان حول الأردن. في المعتاد كان يبدأ يوحنا بعظة طويلة ثم يعمد الجموع حتى بعد الظهر بساعات، ثم يعود للراحة في كهفه وهو أحد الكهوف المنتشرة حول الأردن ليعود مرة أخرى قبل الغروب بقليل ليعمد مرة أخرى. ثم مع غروب الشمس ينعزل في البراري ليصلي طوال الليل حتى فجر اليوم التالي.
كان النهار قد انتصف وتعامدت الشمس على الأرض وبدأت مياه الأردن في الدفء وكان المعمدان قد بدأ في خاتمة عظته الطويلة عن التوبة والأعمال الصالحة:
.... من له ثوبان فليعط من ليس له
.. ومن له طعام ليفعل هكذا
.. أيها العشارون لا تأخذوا ضرائب أكثر مما هو مفروض حكومياً
.. أيها الموظفون لا تقبلوا الرشوة ولا تصدروا تصاريح إلا لمن يستحق
.. لا تعطوا تصاريح بأدوار مخالفة.. .. تذكروا البرج الذي سقط على أصحابه في سلوام!
.. أيها المعلمون لا تضربوا التلاميذ في المدارس بل ربوهم بالحب والحوار
... أيها القضاة لا ترتشوا. ويا أيها المحامون لا تبحثوا عن ثغرات القانون لتخرجوا الفاسدين وتجار المخدرات من الحبس
.. و يا واضعوا القوانين لا تصمموا الثغرات في القوانين قبل القوانين نفسها، بل سنوا قوانين العدل والرحمة
.. يا رجال الشرطة توقفوا عن تقطيع المخالفات لمن يدفعون لكم. وتوقفوا عن ضرب المواطنين في أقسام الشرطة.
.. يا
فجأة وصلت سيارات الأمن المركزي ونزل منها عشرات الجنود وكل منهم يمسك بسلاحه بقبضتي يديه ويخطو بالخطوة السريعة رافعاً قدميه عن الأرض حتى تكاد ركبته تلمس كوعه ثم يضربها في الأرض بكل قوة. انتشرت القوات الخاصة وقوات الأمن المركزي في "كردون"واسع يضم المعمدان وجمهور المعتمدين وهم يهدرون بصيحات بلا مضمون. فقط تعكس قوة وهيبة "الدولة" و ترددها الجبال المحيطة بنهر الأردن..
ثم جاءت سيارات سوداء فخمة و حديثة نزلت منها شخصيات بدت مهمة عندما ظهرت حولها جماعة من الحراس أصحاب الهيبة الشديدة والأجسام الرياضية يرتدون نظارت شمس سوداء ويضعون سماعات دقيقة في آذانهم متصلة بأسلاك رفيعة تختفي في قمصانهم ناصعة البياض وينتشرون حول الشخصيات التي يحرسونها وعيونهم متعلقة بالجبال في كل الاتجاهات.
حضرة صاحب النيافة كاهن الهيكل الأكبر حَنَّان وابن اخته قيافا الكاهن
شمعي رجل الأعمال ونائب دائرة كفر ناحوم
عزائيل إمبراطور الحديد و العضو البارز في الحزب.
وغيرهم من بعض رجال الدولة وموظفيهم المخلصين. كلهم جاءوا ليواجهوا ذلك الموقف الخطير. أدرك المعمدان أن ضيوفه الجدد لم يأتوا لكي يعتمدوا مثل الباقين و إنما قد أتو بسبب عظته الأخيرة التي أذاعتها كل الفضائيات والتي وبخ فيها هيرودس الملك وأشار إلى عدم شرعية زواجه من هيروديا امرأة فيلبس أخيه. لقد أتوا من أجل "هيبة الدولة" التي تجرأ عليها هذا المعمدان. و خشية من الشعب، انتظروا حتى انصرفت جموع المعتمدين ثم ساقوا يوحنا إلى السجن.




عندما سمع يسوع بخبر القبض على يوحنا المعمدان قرر العودة للجليل. وقبل أن يعود إلى قريته في الناصرة قام بجولة في بعض قرى الجليل ومنها قرية كفر ناحوم وعلّم في المجامع هناك وشفى مرضى ليسوا بقليلين، وبعد عدة أيام رجع هو وتلاميذه كل إلى قريته ومدينته فعاد هو إلى الناصرة حيث كان قد تربى.
الناصرة هي أكبر مدمن الجليل واسمها الكنعاني القديم هو "آبل" أو "عين آبل" وقد اجتهد المجتهدون في تفسير اسمها وكانت كل الاجتهادات تدور حول معاني الإشراق والتفتح والعلو والسمو والبشارة والخبر السار. تقع الناصر في قلب الجليل الأدنى على سفح جبل يرتفع عن سطح البحر نحو 400 متر وتحيط بها سلسلة جبال مرتفعة هي جزء من جبال الجليل الأدنى. وتبعد الناصرة حوالي أربعة وعشرين كيلوا متراً عن بحيرة طبرية. كانت مدينة الناصرة شهيرة بشر أهلها وكانت مقر قاعدة عسكرية رومانية كبيرة لذلك كانت العبادات الرومانية الوثنية منتشرة فيها ومستوى التقوى والروحانية فيها كان منخفضاً جداً.
وفي أحد أيام السبوت دخل يسوع إلى مجمع الناصرة وعندما قام ليقرأ من الأسفار، دفع إليه خادم المجمع سفر إشعياء ففتحه على الموضع الذي يقول:
رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ. 2لأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ، وَبِيَوْمِ انْتِقَامٍ لإِلَهِنَا. لأُعَزِّيَ كُلَّ النَّائِحِينَ. 3لأَجْعَلَ لِنَائِحِي صِهْيَوْنَ، لأُعْطِيَهُمْ جَمَالاً عِوَضًا عَنِ الرَّمَادِ، وَدُهْنَ فَرَحٍ عِوَضًا عَنِ النَّوْحِ، وَرِدَاءَ تَسْبِيحٍ عِوَضًا عَنِ الرُّوحِ الْيَائِسَةِ، فَيُدْعَوْنَ أَشْجَارَ الْبِرِّ، غَرْسَ الرَّبِّ لِلتَّمْجِيدِ.

ثم طوى يسوع السفر وسلمه للخادم ووقف ليعظ معلقاً على ما قد قرأ و كانت عيون الجميع شاخصة له وكانوا يتهامسون فيما بينهم.
ـ إنه لا يتكلم كسائر الكتبة والفريسيين.
ـ نعم يتكلم بقوة وبساطة غريبة
ـ أشعر كأن هذه أول مرة أسمع كلمات هذه النبوة. وكأنه يقرأ من كتاب آخر. مع أن الكلام هو الكلام.
ـ أليس هذا يسوع ابن يوسف النجار.
ـ عشنا وشفنا نجار يعلم الكتاب!
ثم ساد صمت عميق عندما نطق يسوع عبارة: " اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم." وراح يقول:
ـ لقد أقبلت عليكم مملكة الله.
بدأ الجميع يتهامسون مستنكرين.
ـ أقبلت علينا مملكة الله؟ كيف هذا؟ هل هذا الفتى يخرف؟ نحن لا نزال تحت الحكم الغربي الروماني!
أضاف يسوع:
ـ مملكة الله لا تأتي بسيوف وعُصيّ ولا تأتي بملك بشريّ.
مملكة الله تأتي عندما يشعر المساكين المرفوضين من كل الناس بالقبول في بيت الله
وعندما يجد المكسوري القلب شفاءًا وعزاءًا وحباً واحتراماً من كل الناس.
عندما يتحرر البشر من أسر خطاياهم ويعتقون من قيد عاداتهم.
تأتي مملكة الله عندما يدخل الجميع في زمن قبول.
عندما يُقبل المريض بمرضه فيشفى والضعيف بضعفه فيقوى والصغير بصغره فيكبر وينضُج.
تأتي مملكة الله عندما يتعزى كل النائحين. النائح على فقدان عزيز عليه والنائح على فقدان حياته الماضية. الذي فقد طفولته بالانتهاك والاعتداء والذي فقد شبابه في الخطايا والذنوب والذي فقد كل عمره في التيه والضياع...
تأتي مملكة الله عندما يستطيع من عاشوا في ثياب الحداد والعزلة ورفض الحياة أن يشعروا بقيمة أنفسهم واستحقاقهم للحياة والجمال.
تأتي مملكة الله عندما ينوح الناس على ما فقدوه ثم يتعزوا ويقبلوا الفرح بعد أن عاشوا حياة عقيمة من اللاحزن واللا فرح.
تأتي مملكة الله عندما تتحول كلمات اليأس إلى تسابيح الشكر والأمل في المستقبل هنا على الأرض وإلى الأبد في السماء.
عندما ينظف الله أرض حياتك التي كانت مقلباً للقمامة ويغرس فيها غابة باسقة الأشجار.
لكي يحدث هذا في حياتك ليس عليك إلا أن تقبل وتوافق وتصدق. فلن تحل مملكة الله في قلوب المتشككين والرافضين والسلبيين.
لن تأتي مملكة الله في قلب يبحث عن أخطائه وأخطاء الآخرين.
لن تأتي مملكة الله في قلب قد أحب الشر وركن إليه وتوقعه.
لن تأتي مملكة الله في قلب استهواه الظلام وكره مواجهة الحقيقة.
ربما تقولون لي لماذا لم تحدث المعجزات التي حدثت في كفر ناحوم هنا في الناصرة؟ أقول لكم أنهم هناك في كفر ناحوم كانوا بسطاء يصدقون ويتوقعون الخير من الله. أما أنتم هنا فتنظرون إلىّ وتقولون أليس هذا النجار؟! الحق أقول لكم ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وبين أهله. لقد عثرتم فيّ ونظرتم إلى بشريتي ونسيتم أن الله قادر أن يحلّ أينما يشاء. أما هناك في كفر ناحوم فقبلوا ومدّوا أياديهم فأخذوا ما أراد الله أن يعطيه لكم.

امتلأ الجميع بالغضب لما قاله يسوع فهاجوا عليه ودفعوه أمامهم بطريقة مهينة فكان يقع على الأرض ثم يقوم واستمروا يدفعوه هكذا حتى حافة الجبل وكانوا يريدون أن يلقوه من هناك لكنه قاومهم واجتاز في وسطهم بقوة عجيبة ومضى إلى بيته وهو موقن أن حياته في الناصرة قد وصلت إلى نقطة نهايتها.

في الحلقات القادمة سوف نتابع يسوع وتلاميذه وهم يتخذون من مدينة كفر ناحوم منطلقاً إلى خدمتهم في كل الجليل.

الخميس، ٧ يناير ٢٠١٠

من العين للبئر


9
بعد نهاية موسم الفصح، ترك يسوع وتلاميذه أورشليم ولكنهم لم يعودوا للجليل واستمروا في صحراء اليهودية على الضفة الغربية لنهر الأردن وبدأ تلاميذ يسوع يُعمدون  للتوبة والبداية الجديدة  كل الذين كانوا يأتون إليهم طالبين ملكوت الله.  كان يوحنا المعمدان أيضاً يعمد في عين نون وهي عين من العيون كثيرة المياه المنتشرة في وادي الأردن  وكانت عين نون بالقرب من قرية ساليم التي هي إلى الشرق من قرية نابلس.
شعر بعض تلاميذ يوحنا بشيء من "الغيرة المهنية" فيسوع وتلاميذه يعمدون بالقرب منهم وظنوا أنهم في حالة تهديد ومنافسة، فذهب اثنان منهم إلى يوحنا.
ـ يا معلم. هل تعلم أن يسوع لا يزال في اليهودية وهو يُعمد بالقرب منها هنا؟
ـ هل هذا صحيح؟ هذا أمر رائع!
ـ ليس رائعاً تماماً فالجميع أصبحوا يأتون إليه هو وقَلَّ عدد الذين يأتون إلينا.. لقد رأينا هذا الصباح عائلة بأكملها كانوا آتين إلينا ليعتمدوا فجاءهم شخص يجري من بعيد ويقول لهم أن يسوع يعمد بالقرب من هنا فغيروا وجهتهم في الحال وذهبوا معه لكي يعتمدوا من يسوع.
أطرق يوحنا قليلاً وبدأ يتكلم وكأنه ينظر إلى بُعد آخر..
ـ لا يقدر أحد أن يأخذ شيئاً إلا ما يعطيه الله له.
ـ أنت المعمدان وقد أعطاك الله أن تعمد!
ـ  من له العروس فهو العريس، وأما صديق العريس فيقف بجانبه ويفرح له.
ـ عريس ماذا وعروس ماذا؟
ـ الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع، والذي من الأرض هو أرضي.
ـ لا أفهم شيئاً!
ـ عزيزي داود. الذي أرسله الله يتكلم بكلام الله. أما الذي من الأرض فهو أرضيّ ويتكلم بكلام الأرض.
ـ وهل هناك كلام للأرض وكلام للسماء؟
ـ الذي يأتي من السماء يتكلم بكلام صعب لكنه يغير، ومن يخرج من الأرض يتكلم بكلام الأرض السهل الذي يرضي الغرائز ويظل الإنسان أرضياً جسدياً.  ومن يريد الأرض سوف يُقبل على كلام الأرض ومن يبغى السماء سوف يذهب وراء كلام السماء حتى وإن لم يفهمه.
ـ هل تقصد أننا من الأرض ونتكلم كلام الأرض؟
ـ أنا لست المسيح، لقد جئت فقط لأشير إليه وأعد الطريق أمامه ولعلكم تذكرون إني قلت كذلك. لذلك ينبغي أن أنقص أنا وهو يزيد.
ـ هل تقصد أن يسوع الذي من الناصرة.. هو الآتي من الله
ـ أنا أحمل كلمة من الله أما يسوع فهو نفسه كلمة الله
ـ وما الفرق؟
ـ لا أدري... ولكنني أشعر أن روح النبوة الذي عليّ يقول لي هذا.
ـ ماذا يقول؟
ـ يقول أن يسوع هذا هو شهادة الله الكاملة عن نفسه ومن يصدقها فهو الذي يشهد ويؤمن أن الله صادق وبذلك تكون له الحياة الأبدية!
ـ هذا كلام غريب ولا يمكن تصديقه. كيف يكون هذا المعلم الشاب الذي كان بالأمس نجاراً هو شهادة الله الكاملة عن نفسه! أنا لا أصدق هذا!
ـ معك حق يا داود هذا كلام غريب وصعب التصديق، لكنني أقول ما أشعر به. على أي حال سوف نرى فإن كان هو بالفعل كذلك سيُثبِت ذلك وإن كان مدعياً فهذا سيظهر أيضاً.

علم يسوع وتلاميذه أن الفريسيين أدركوا أنه يُعَمِّد ويصير الكثيرون تلاميذ له. وحيث أن يسوع لم يكن يريد أن يصطدم بالمؤسسة الدينية أكثر من ذلك، خاصة بعد ما فعله في الهيكل في الفصح، فقرر أن يترك اليهودية ويعود للجليل. وفي طريق العودة كان ينبغي أن يمر بإحدى قرة السامرة في طريقه للجليل حيث أن الطريق الصحراوي إلى الشمال طويل وإذا اضطروا للوقوف للتزود بالماء أو الطعام فليس سوى قرى السامرة في الطريق. وبالرغم من معارضة تلاميذه الذين لم يكونوا يريدون دخول أي قرية للسامريين الكفار، عبر إلى قرية بالسامرة كانت تدعى سوخار وهي بقرب الضيعة التي وهبها يعقوب لابنه يوسف وكانت هناك بئر حفرها يعقوب بنفسه عندما جاء إلى شكيم  وتسمى بئر يعقوب.
كان السامريون يعبدون الله ولكن بطريقتهم الخاصة على جبل جرزيم بدلاً من جبل الحصن (صهيون) في أورشليم القدس. وكانت عبادتهم قد دخلتها ممارسات وثنية كثيرة بسبب أن أغلبهم من الذين  ولدوا في السبي في أشور فاكتسبوا عبادات آشورية وثنية أدخلوها إلى عبادة الله.

انتظرت حتى الظهيرة لتتأكد أن كل النسوة قد ملأن جرارهن وعدن إلى بيوتهن. عندئذ خرجت وهي تتمنى أن تنجز المهمة باسرع وقت. ارتدت ملابسها، ولم تنس وضع بعض الحليّ وشدت حزاماً حول خصرها ليظهر تفاصيل جسدها قليلاً، ثم وضعت بعض الألوان على وجهها. عادات لم تعد تشعر فيها بأي سعادة.
أتمت استعدادها للخروج بشكل تلقائي خالي من أي تفكير مثل الجندي الذي يرتدي ملابس الميدان ويرتب الأسلحة في حزامه ليواجه الحرب، ثم قبل أن تخرج ألقت نظرة على المرآة، فأدركت أن عيناها حمراوتان من عدم النوم طوال الليلة السابقة فزادت من الكُحل حولهما لئلا يظهر احمرارهما. وقبل أن تمرق من الباب، أخذت نفساً عميقاً و ارتدت قناع القوة مستعدة للهجوم الذي أثبتت لها التجارب السابقة أنه خير وسيلة للدفاع. لقد أثبتت كل هذه الدفاعات والأسلحة نجاحها على مر السنوات فلطالما ساعدتها لباقتها وروح مرحها المشوبة بالسخرية اللاذعة، أن تخرج من المواقف الصعبة وتتعايش مع أهل تلك القرية الصغيرة "سوخار" برغم سمعتها السيئة. كان الجميع يتكلمون عنها ولكن من وراء ظهرها. لم يجرؤ أحد أن يوجه لها أي اتهام أو هجوم واضح، وإلا تعرض لسيل جارف من سخريتها وصار أضحوكة الصبيان والبنات في الحيّ.
أما خلف هذه الدفاعات وبالرغم من مظهر القوة، كانت تبذل مجهوداً نفسياً شديداً لكي تبدو هكذا أمام الناس بينما قلبها في الداخل ينزف ببطء شديد طوال سنوات عمرها الثلاثين. لذلك كانت تتجنب الظهور أمام الناس كثيراً محاولة تقليل العبء النفسي الثقيل الذي كانت تبذله لتظل محافظة على مظهرها القويّ هذا.
تركته نائماً حتى الظهر، فقد كان يشرب الخمر حتى الصباح بعد أن وصل عند الغروب مع قافلته التجارية. وعدها بالزواج أكثر من مرة، لكنه لم يجد مبرراً يجعله يفي بوعده وهو التاجر الذي يفكر في كل شيء بمنطق الربح والخسارة. كلما حلت قافلته بالسامرة في طريقه من دان في أقصى الشمال إلى مصر في الجنوب، كان يميل ليبيت لبعض الأيام عندها. كان هذا يحدث مرتين أو ثلاث مرات فقط في السنة.
حاولت مراراً أن تقنعه بالزواج حتى ترفع رأسها قليلاً في قريتها الصغيرة سوخار بدلاً من أن تكون مجرد عشيقة التاجر المسافر، فكان دائماً يرد عليها قائلاًُ: " لماذا الزواج؟ وماذا أخذتِ من الزواج؟ لقد تزوجت خمس مرات وكلهم تركوك. لعلي بهذه ا لطريقة لا أتركك!"
قالت في نفسها: " لا تتركني؟!.. وهل أنت معي؟ أنت فقط تتوقف للحصول على بعض المتعة في الطريق!" لكنها لم تقو أبداً على قطع علاقتها به، فبالرغم من كونها تدرك تماماً أن كل كلمات الحب والغزل التي يقولها هي فقط مقدمة لكي ينال منها ما يريد، إلا أنها كانت "تعيش" على هذه الكلمات وكأنها نبتة صغيرة في الصحراء لا ترى المطر إلا مرتين في السنة!
خرجت من الدار متثاقلة وهي مطمئنة أن معظم النسوة في بيوتهن الآن يعددن الطعام لأزواجهن وأطفالهن..
آه الأطفال.. أخذوهم آباءهم..... خافوا عليهم من أن تربيهم امرأة مثلي!!
مسحت الدمعة المتمردة التي قفزت فوق دفاعاتها وهي تقول لنفسها:
"لا ليس الآن... ليس هنا.... لتكوني قوية.. نحن الآن في الشارع. الشارع الذي لا يرحم!"
وضعت جرتها على رأسها لتحميها قليلاً من شمس الظهيرة الحارقة وهي تفكر:
لكم ستكون مياه البئر ساخنة الآن! لكن ماذا أفعل؟ لقد تعبت من نظرات النسوة. صحيح أن إحداهن لن تجرؤ أن توجه لي كلمة واحدة ، لكني أشعر في الداخل أني أقل منهن جميعاً.
في الليلة السابقة لم يرحمها النوم ويأتي إلا مع الفجر فقد قضت ليلتها كلها تتابع شريط حياتها الذي بدأ منذ ثلاثين سنة عندما وُلدت كأول ابنة غير مرغوب فيها لأحد التجار المسافرين دائماً.
لعل ذلك ما جعلني أبحث عن التجار المسافرين والرجال اللاهين وأحاول أن أجعلهم يمكثون معي! ..
عندما خطرت ببالها هذه الفكرة، ندت عن طرف ثغرها الذي تعلوه حَسَنة جذابة، ابتسامة سخرية سوداء.
أبي غائب.. أمي حزينة كئيبة القلب لا تكاد تبرح فراشها.... أنا الصبية ذات العشرة أعوام كنت أفعل كل شيء ــ أرعى المنزل واخوتي الصغار وأخرج أيضاً للعمل... لكم كنت أتمنى أن تحتضني أمي، ولكنها كانت إما نائمة، أو تبكي أو إذا استيقظت، تشكي لي همومها وآلامها وشكوكها في خيانة أبي في البلاد التي يذهب إليها. كنت أواسيها وأخفف عنها ثم "أضعها في سريرها" وأذهب أنا إلى "شغل البيت". لقد كنت أنا، الطفلة الصغيرة، أُماً للجميع!!
لكَم كنت أشتاق لحضن أمي أو أبي، أو أي حضن... أي لمسة حنان! لكَم كنت أتوق لأن أتكلم فيسمعني أحد! لكَم كنت أشتاق لأن أبكي فتأخذني أمي في حضنها! لكَم كنت أتمنى لأن أحصل على الاهتمام و"الدلع" الذي كان صديقاتي يحصلن عليه من آبائهن وأمهاتهن!
عندما جائتني "العادة الشهرية" هَرعتُ إلى أمي خائفة: "ما هذه الدماء التي تتدفق مني يا أمي؟ هل سأموت! " فأجابت بعينين متثاقلتين: " لا لن تموتي.." ثم ألقت لي ببعض قطع القماش القديم وهي تقول دون أن تتجشم حتى عناء النظر إليّ :" سوف يحدث هذا كل شهر. هذا طبيعي... لقد كبرت!" ثم عادت إلى فراشها.
لا أذكر حناناً أو اهتماماً سوى اهتمام ابن عمّي.....ابن عمي؟ ....... آه لماذا تأتي كل هذه الذكريات الآن؟ لقد دفنتها منذ سنوات...
كانت أمي ترسلني إلى بيت عمّي من وقت لآخر لأقترض بعض الطعام... بعض القمح لنطحنه أو قليل من الزيت.. فقد كانت دائماً نقودنا تنفذ قبل أن يعود أبي من سفره الطويل. لكم كنت أشعر بالخزي! لكن صرخات اخوتي الصغار الجائعة كانت سياطاً تلهب ظهري وتدفعني إلى هناك! لكن بعد قليل، أصبحت أحب الذهاب، بل كنت أنا الذي اختلق الأسباب للذهاب.
....... ما الذي يجعلني أتذكر هذه الأشياء الآن؟
حاولت أن تنفض الذكريات عن رأسها المتعب وتواصل مسيرها للبئر، لكن سرعان ما عادت الذكريات متدفقة وكأنها مجموعة ذباب جائعة في بداية الربيع وقد عثرت على طبقاً من العسل!
بالطبع أثارت ذكرى ابن العم في قلبها مشاعر مختلطة من الشجن والخزي معاً.
كان ابن عمي هو الإنسان الوحيد الذي لمس جسدي في ذلك الوقت. لم تكن لمساته هي بالتحديد ما أريد، لكنها كانت لمسات على أيّ حال. بالطبع سرعان ما تطورت لمسات الحنان إلى ما هو غير ذلك وشيئاً فشيئاً أصبحت لدي "علاقة جنسية كاملة" بابن عمّي وأنا في سن العاشرة! كانت هذه هي النهاية الرسمية لطفولتي. أصبحت "امرأة" في سن العاشرة.
الحقيقة لم أكن أشعر أن هناك شيئاً ما خطأ، فقد كان يعطيني ما أريد وأعطيه أنا ما يريد. كان يعطيني بعض الحنان الذي كان يمدّني بالقوة لأكمل حياتي الصعبة، وأنا أعطيه ما يجعله يطفئ نار الذكورة المتأججة في جسده حديث البلوغ. لا أستطيع أن أنكر أنني أيضاً شعرت ببعض اللذة وتعلقت بها بل وأعتمدت عليها تماماً وكأنها صديقي الوحيد في هذه الحياة التي ليس فيها إلا المسؤوليات.
هكذا مبكراً في حياتي تعلمت أنه لا حنان بدون ثمن؟ الرجال لا يعطون الحب إلا في مقابل الجنس، وعليّ أن "أدفع". لقد قبلت هذه الحقيقة كإحدى حقائق الحياة التي لا تُناقَش. وهكذا دفعت.. ودفعت. لكنهم كانوا دائماً يأخذون ما يريدون ثم يمضون في طريقهم طال الوقت أم قصر. حتى الزواج لم يمنعهم من الرحيل. أخذوا الأطفال وتركوني أنوح وأبكي وليس من يمسح دموعي إلا تتابع الأيام الرتيبة غير المبالية.
من يصدق أن هذه الدورة تكررت خمس مرات؟! ربما اختلفت السيناريوهات قليلاً.. لكنها نفس النهاية الحزينة كل مرّة. وفي كل مرة كنت أظن أن الحبيب الجديد سيكون مختلفاً وسيحترم الزواج والأسرة ... ما أغباني!
معه حق أليفاز.. ماذا أفادني الزواج؟ ربما، كما يقول، أن سبب بقاءه معي حتى الآن هو أننا لم نتزوج. ربما الرجال لا يحبون الالتزام. ولكنّي واثقة أن أليفاز أيضاً إذا ملّ مني سوف يرحل، بل إذا تغير مسار قافلته فلا يعود يمر بسوخار، سوف ينسى حتى أنه عرف امرأة من السامرة. أعرف تماماً أنه كاذب وكل ما يريده هو الجنس. ولكن ماذا أفعل؟ لا أستطيع أن أعيش وحدي!
يا لشقاوتي! فأنا كمن يشرب ماءً مالحاً. ومع كل شربة، يُمَنِّي نفسه بالارتواء، ثم لا يزيده الشرب إلا عطشاً!
لم تفق من أفكارها إلا عندما وصلت للبئر. أنزلت الجرة وهمّت بأن تدلّيها إلى البئر. وقبل أن تصل بها إلى مستوى الماء، سمعت خلفها صوتاً عميقاً هادئاً:
- اعطيني لأشرب.
التفتت لتجد رجلاً في الثلاثينات من عمره، جميل المظهر تشي نظراته بحنان ممزوج بالثقة الشديدة بالنفس. كما تدل ثيابه ولهجته أنه يهوديّ.
رجل يهودي هنا عند البئر يتحدث إليّ دون سابق معرفة، ويطلب مني أن أعطيه ليشرب! ما هذا؟! هل هذه هلوسة بسبب عدم النوم؟
بسرعة حاولت أن تداري ارتباكها بكلمات بدأت متعثرة، ثم تدريجياً استعادت قوتها و جرأتها المعتادة في الحديث، ولم تنس أن تضيف للكلمات بعض نظرات الإغراء المثيرة التي أصبحت تخرج منها بطريقة عفوية معتادة وكأنها برنامجاً يعمل تلقائياً:
- كيف تطلب مني لتشرب وأنت رجل يهوديّ وأنا امرأة سامرية؟!
بادرها بعبارة جعلتها تشعر أكثر فأكثر أنها ليست أمام رجل عاديّ.
- لو كنت تعلمين عطية الله، ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب، لطلبت أنت مِنه فأعطاك ماءً حياً.
من هذا الرجل؟ هل يريد مني ماءً ؟أم يريد أن يعطيني ماء؟ أم فقط يحاول أن يتجاذب أطراف الحديث معي؟ لا أظن أنه يريد ما يريده الآخرون. ثم.. الله؟ عطية الله؟ ... أنا لا أحب الكلام عن الله! ولكن مالي أشعر أن وقع كلمة "الله" على لسان هذا الرجل بالذات يأتي مختلفاً؟ ...عطية الله؟ هل الله يعطيني أنا؟ وماذا أعطيته في المقابل؟ ثم ما علاقة الله وعطية الله بهذا الرجل؟ وما له يتكلم بهذه الثقة: "لو كنت تعلمين من هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب!"... من تكون؟! ثم ما هو الماء الحيّ هذا؟
تذكرت فجأة أنها منذ لحظات كانت تفكر في نفسها أنها مثل الذي يشرب ماءً مالحاً..
ألعل هذا الرجل سمع الفكرة التي دارت بذهني من لحظات؟ أم أن عطشي وجفافي أصبحا واضحين لهذه الدرجة؟
منذ أول وهلة كانت قد لاحظت أنه ليس كباقي الرجال. يكفي أنه ينظر إلى عيناها مستقيماً ولا تجول عيناه بجسدها كما يفعل أغلب الرجال. ثم أن نظراته بها شيء ما ينفذ إلى القلب، ليس القلب الذي أحببت به الخمسة السابقين ولا أليفاز الحاليّ وإنما إلى قلب القلب!
لم تدر لماذا فجأة شعرت أنها أمامه نفس الطفلة الصغيرة ذات الأعوام العشرة وكأن السنوات العشرين التي مرت بها قد لملمت ثيابها وزيجاتها وأطفالها ووقفت جانباً تراقب هذا اللقاء.
إنه بالطبع لا يتكلم عن الماء الذي في هذا البئر، ولا في أي بئر. شيء ما في أعماقها أدرك أن هذا الرجل وصل إلى عطشها الحقيقي الذي حاولت طوال تلك السنوات العشرين أن ترويه. لكنها لم ترد أن تصدق. سيطر الخوف المشوب بالفرح والترقب على كل كيانها. حاولت أن تهرب من هذه المواجهة، في الوقت الذي كانت تشعر فيه بكل كيانها يندفع نحو ذلك "الماء" الذي يشير إليه دون أن تعرف ما هو وكيف يمكن لهذا الرجل أن يعطيها إياه وما علاقة هذا بالله؟!
أجابت وكأنها لا تفهم ماذا يقصد، لكي تعطي نفسها فرصة لتستجمع نفسها:
- يا سيد، لا دلو لك والبئر عميقة. فمن أين لك الماء الحيّ؟ ألعلك أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا البئر، وشرب منها هو وبنوه ومواشيه؟".
فهم يسوع أنها تراوغ فتكلم بصراحة أكبر:
- كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً. ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد، بل الماء الذي أعطيه أنا يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية.
قضت هذه الكلمات على كل محاولاتها للفهم، فبرغم ذكائها الفطري الحادّ، نجحت كلمات يسوع في تعطيل كل برامج عقلها تماماً. لكن قلبها كان يشعر براحة غريبة. شعرت فجأة بالعجز وفقدان السيطرة على كل كيانها. هذا الشعوردائماً ما يجعلها ترتعب رعباً شديداً، فهي لم تفقد السيطرة للحظة على عقلها أو مشاعرها أو حتى جسدها طوال سنوات عمرها الثلاثين. حتى أثناء ممارسة الجنس، تعودت أن تكون مسيطرة تماماً على كل ردود أفعالها. في كل العلاقات السابقة كانت تعد نفسها للفراق منذ بداية العلاقة حتى لا تتألم. فقدان السيطرة للحظة واحدة بالنسبة لها هو الموت المحقق! لكن هذه المرة، شيء ما جعلها تتصالح مع شعورها بالعجز والاحتياج؟ أسئلة كثيرة تزاحمت في عقلها؟
ما هو "ماء الحياة" هذا؟ ومن هذا الإنسان ليقول هكذا بجسارة أنه يستطيع أن يعطي ماء من يشربه لا يعطش إلى الأبد؟ ولماذا أشعر أنه صادق؟ لا ليست كلماته.. إنها عيناه.. فيهما حُبّ وقبول لم أرهما من قبل. عقلي لا يفهم معنى القبول، لكن شيء ما بداخلي يبدو وكأنه يفهم هذا الذي لا يفهمه عقلي. أشعر أن كياناً ما يرتوي بداخلي كلما نظرت إلى عينيه. ليست فيهما نظرة الرجال المتعالية على النساء، ليس فيهما حب الرجال أو شهوتهم، ليس فيهما احتقار اليهود لنا نحن السامريين. ليس فيهما كل ما توقعت أن أجده. فيهما شيئ غريب! هذا فقط هو ما يجعلني أميل لتصديق ما يقوله هذا الرجل من كلمات تبدو كعين الجنون! لولا أن نظرات عينيه تقولان أنه أصدق إنسان في الوجود لاعتبرت ما يقوله هذيان مجذوب من مجاذيب الهيكل!
مهما كان هذا الماء، فأنا أريده بأي ثمن. أنا أريد أي شيء يقول عليه هذا الرجل. شيء ما بداخلي يصدّقه ويريد أن يطلب منه هذا الماء، لكن شيئاً ما آخر خائف ومتردد.
قالت وكأنها تحاول أن تمنع طفلة بداخلها تريد أن تهرع إليه وترتمي في أحضانه:
- يا سيد... اعطني هذا الماء
ثم أضافت لكي تغطي الكلام مرة أخرى
- لكي لا أعطش ولا آتي إلى هنا لأستقي!
- اذهبي وادعي زوجك وتعالي إلى ههنا.
آه..... يبدو أن هذا الرجل يعرف كل شيء! إن ما شعره قلبي من البداية كان صحيحاً. هذا الرجل بالفعل ليس رجلاً عادّياً. أشعر كأن نظراته ترى حياتي كلها منذ بدايتها حتى نهايتها.
- ليس لي زوج!
- حسناً قلت ليس لي زوج لأنه كان لك خمسة أزواج والذي لك الآن ليس هو زوجك. هذا قلت بالصدق.
شعرت وكأن قلبها يغوص حتى قدميها. انهارت كل دفاعاتها في هذه اللحظة.. وشعرت بعجر وضعف لم تشعر به حتى عند ولادتها. حاولت أن تتكلم. لم تخرج الكلمات. ثم انسابت بعض الكلمات منها دون أي وعي.
- يا سيد أرى أنك نبيّ!
- ماهذا الذي قُلتِ؟!
- لقد اعترفت بالحقيقة. ما يقوله هذا الرجل هو الحقيقة!
- وكيف شَعُرتِ بالأمان هكذا لتعترفي بالحقيقة؟
- أنا أشعر معه بالأمان.
- كيف؟ ألم أعلمك ألا تشعري بالأمان مع أي إنسان؟
- لا أدري. ولكن هذا الرجل ليس كجميعهم؟
- من أدراكِ يا غبية؟
- لا أدري. هكذا شعرت، فهكذا قلت!
- كم مرة علّمتك ألا تقولي ما تشعرين به ، بل عكسه تماماً!
- لم أستطع!
دار هذا الحوار بينها وبين طفلة داخلها!
ثم استجمعت أطراف شجاعتها المعهودة واستدعت بسرعة أرشيفها من المعلومات الدينية، فهذا الرجل غالباً لا تنفع معه الحيل الأنثوية المعتادة. ثم قالت وهي تحاول أن تبتعد بأقصى سرعة عن
تلك النقطة التي وصل إليها الحديث.
- آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون أن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه.
- يا امرأة صدقيني أنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب. أنتم تسجدون لما لستم تعلمون. أما نحن فنسجد لما نعلم. لأن الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق. لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له. الله روح. والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا.
صدقيني؟! ...... لم يقل لي أحد من قبل هذه الكلمة الحميمة.. ثم من هو هذا الأب؟ السجود هو لله......هل الله أب؟ هذا كلام غريب! ما معنى الأبوة؟... ثم ما معنى أن الله روح؟ وهل يمكن السجود لله في أي مكان؟!! حقاً أنا أمام رجل مختلف يقول كلاماً مختلفاً!
هذا الكلام الذي يقوله يشبه نبوات الكتاب عن الملكوت الآتي. كلام ربما لن يتحقق إلا بعد أن يأتي المسيا نفسه!......نحن لا نحب اليهود.. ولاهم يحبوننا.. لكننا جميعنا ننتظر المسيا في نهاية الزمان! نحن كلنا نعرف أصله ومصدره ونعرف أنه سينصفنا جميعاً، اليهود والسامريين والجميع. لكن متى يأتي؟
ألعله يأتي أساساً؟!!
- أنا أعلم أنا مسيا الذي يقال له المسيح يأتي. فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء.
- أنا الذي أكلمك هو.
دارت الدنيا بها... أمسكت بحافة البئر لكي لا تهوي على الأرض.
أنا أتكلم مع رجل قال لي لتوه أنه المسيا!!!!
لو لم يكن قد قال ما قاله، ولو لم تكن عيناه تشعان هذا الصدق العجيب، لضحكت من أعماق قلبي!
المسيا جاء!!
وجاء لي أنا!!!
المسيا يأتي للهيكل بمجد وقوة.. لا يمكن أن يكون هذا هو المسيا!
لكن لا يمكن أيضاً أن يكون هذا إنساناً عادياً. هذا إما مجنون، أو هو المسيا!
لكن كيف يكون هذا مجنوناً؟!
المسيا يظهر على سحاب السماء بمجد في نهاية الزمان فيخضع الأرض تحت قدميه! المسيا لا يظهر لامرأة متعددة الأزواج على بئر بسوخار السامرة!
عقلي يكاد ينفجر!
إن كان هو المسيا، فيجب أن يعرف الجميع. لا يمكن أن أحتفظ بهذا الخبر لنفسي.
إنه هو المسيا!
لم تدر المرأة إلا وقد تركت جرتها معه عند البئر، وهرعت للمدينة التي كانت تهرب منها وهي تردد عبارة واحدة فقط: " هلموا انظروا انساناً قال لي كل ما فعلت. ألعل هذا هو المسيح؟!"
وقعت كل دفاعاتها وهي تجري
لم تعد تبذل أي جهد في مواجهة الناس
لم تعد تحتاج لقناع القوة، أو حيل التفوق
شعرت أن شيئاً ما أكبر منها وأكبر من الحياة نفسها يحتويها
شعرت بقوة وجرأة لم تشعر بهما من قبل
قال لي كل ما فعلت!
لقد صار عاري الذي كنت أخفيه، برهان صدق بشارتي وحجتي أنني، أنا، قد وجدت المسيا الذي يفتش عنه الجميع!
أنا السامرية المزواجة الزانية التي تعيش في الحرام ظهر لي من تنتظره كل الأجيال
يا لها من كرامة!
يا له من رد لاعتباري لم أكن أتخيله!
وعندما سمع أهل المدينة هذه المرأة بالذات تقول هذا، هرعوا وراءها وأتوا إليه، فهي ليست امرأة عادّية. الكل يعرفها ويعرف أنها لا تنسى نفسها هكذا إلا إذا كان ما تقوله مهماً.
أخذوا يتكلمون معه ويكلمهم وهي واقفة وسط الصفوف تنظر إلى أهل قريتها وتنظر إلى يسوع وابتسامة غريبة تعلو وجهها، وجزء من عقلها يُعدّ ما ستقوله لأليفاز لإنهاء العلاقة!



الجمعة، ١ يناير ٢٠١٠

المولود من الروح






8
ليل أورشليم في موسم الحج قريب الشبه بالنهار. في النهار تعج الطرقات بالحجيج القادمين من كل أرجاء الأرض. وفي الليل الربيعي الدافئ تتملئ ساحات المدينة بالخيام التي ينصبها الحجاج، وبالذات الفقراء الذين لا يستطيعون المبيت في الخانات أو الذين أتوا متأخرين ولم يجدوا مكاناً للمبيت إلا في العراء في ساحات تؤجرها البلدية لمجموعة من رجال الأعمال يقسمونها فيما بينهم ويقيمون عليها رجالهم الذين يؤجرونها بالمتر بأسعار باهظة، حيث يتحمل "المستهلك" في النهاية كل العمولات والمكاسب والرشاوي التي يدفعها هؤلاء المنتفعون من رجال الأعمال لمسئولي الحكومة ثم يبيعون حق الانتفاع لمقاولين يقسمونها فيما بينهم ثم يبيعونها بدورهم لرجال بسطوا نفوذهم منذ سنين على المناطق المختلفة وهؤلاء لهم رجالهم وصبيانهم الكثيرون.  مافيا كبيرة مستقرة من سنوات طويلة يقوم عليها رجال ربما لا يعملون طوال السنة إلا أثناء موسم الحج.  بعض منهم من الخارجين على القانون أو البلطجية الذين يستخدمهم الموسرون عادة في تطبيق قانون خاص بهم يؤلفون مواده حسب الحاجة لتحقيق المصالح المختلفة في دولة رخوة نخر الفساد في هيكلها العظمي ولم يُبق منها سوى مظهر الدولة القوية الكبيرة.  هذه المافيا تنشط قبيل موسم الحج وتستمر إلى ما بعد عيد ضحية الفصح حيث يميل عدد غير قليل من الحجاج  للمكوث بعد الحج بعدة أيام رغبة في التبرك بالأراضي المقدسة وزيارة قبور الأنبياء والصلاة في هيكل أورشليم المهيب.

نيقوديموس... أحد كبار شيوخ الفريسيين أعضاء المجلس الأعلى للشئون اليهودية (مجلس السنهدريم) كان موجوداً عندما طهر يسوع الهيكل ومنذ ذلك الوقت لم يستطع أن يوقف التفكير في أمر هذا المعلم الجليلي وما فعله. كان أكثر ما يفكر فيه نيقوديموس هو المعنى اللاهوتي والنبوي لما فعله يسوع. من أين يأتي هذا اليسوع بتلك الشجاعة والثقة ليتكلم  هكذا عن الله كأبوه ؟ ويتعامل مع الهيكل كمن يتعامل مع بيته وبيت أبيه؟  لا يفعل هذا إلا شخص مجنون أو شخص المسيا نفسه. حاول نيقوديموس أن يقاوم فضوله الشديد أن يتعرف على يسوع ليتأكد أنه مجنون. فلا يمكن أن يأتي المسيح هكذا.  لا.. لا يمكن. هو بالتأكيد شخص مهووس كأحد المهاويس الذين يظهرون بين الحين والآخر يلبسون ملابس غريبة ويصرخون في الهيكل مدعين أنهم المسيا أو إيليا أو أخنوخ أو أي من الأنبياء والصالحين الأقدمين.  لكن شيئاً ما في هذا المجنون كان مختلفاً. لم يكن مثلهم.

تقلب نيقوديموس على فراشه ولم يستطع النوم..
ـ ما بك يا نيقوديموس؟
ـ لا شيء يا سارة.. نامي
ـ كيف لا شيء لقد أيقظني تقلبك على الفراش.
ـ لا شيء.. نامي
قام الشيخ العجوز وخرج إلى ساحة البيت وأغلق حجرة النوم على زوجته ثم ذهب إلى مكان الصلاة في البيت و أخذ شال الصلاة المصنوع من الكتان الأبيض المائل للصفرة وتتدلى منه الشراشيب الكثيرة ثم وضعه على رأسه وثبت الصندوق الجلدي الصغير الذي يحتوي على مخطوط صغير للوصايا العشر على مقدمة رأسه بسيور جلدية وثبت صندوقاً مماثلاً  بسيور مماثلة على ساعده الأيمن كتطبيق حرفيّ للنص الذي يقول أن الشريعة يجب أن تكون بيني عينيّ المؤمن ليطبقها دائماً وحول ساعده الأيمن لتحكم كل ما يفعل. وهكذا بدأ في الدعاء.
ـ يا إلهي وإله آبائي. الإله الذي أخرجنا من مصر بيد قوية وذراع مرفوعة. إلهمني معرفة الحقيقة. من هو  يسوع هذا؟ هل هو المسيح المنتظر؟ هل هو فعلاً ملاك العهد الذي ننتظره؟
وبمجرد أن نطق نيقوديموس بعبارة "ملاك العهد" رفع رأسه وفتح عيناه وكأنه وجد شيئاً. فذهب إلى رقوق الشريعة والأنبياء وبحث بين اللفائف عن نبوة ملاخي وذهب بعينيه إلى نهاية النبوة باحثاً عن عبارة "ملاك العهد"
«هأَنَذَا أُرْسِلُ مَلاَكِي فَيُهَيِّئُ الطَّرِيقَ أَمَامِي. وَيَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ، وَمَلاَكُ الْعَهْدِ الَّذِي تُسَرُّونَ بِهِ. هُوَذَا يَأْتِي، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ» وَمَنْ يَحْتَمِلُ يَوْمَ مَجِيئِهِ؟ وَمَنْ يَثْبُتُ عِنْدَ ظُهُورِهِ؟ لأَنَّهُ مِثْلُ نَارِ الْمُمَحِّصِ، وَمِثْلُ أَشْنَانِ الْقَصَّارِ. فَيَجْلِسُ مُمَحِّصًا وَمُنَقِّيًا لِلْفِضَّةِ.
ملاك العهد يأتي بغتة إلى الهيكل... والهيكل هو هيكله؟ من هو ملاك العهد؟ هو نفسه صاحب الهيكل؟ أي أنه هو .... استغفر الله العظيم! هو .. "السيد؟" وهو  ينقي ويمحّص. يُقَوِّم ويُطَهِّر؟  ألعل ما حدث صباح اليوم هو تحقيق لهذه النبوة.
وهل ملاك العهد هو نفسه ملاك الرب. ملاك الرب الذي ظهر لسيدنا إبراهيم أبو الآباء والذي  ظهر وكلم موسى في العليقة... من هو! إنه "السيد"؟ كيف يكون هو.. "السيد!" .. السيد هو الرب! يا إلهي! ... هل من الممكن أن يكون هذا اليسوع هو كلمة الله؟ عقل الله!
لم يدر نيقوديموس بنفسه إلا وقد وضع عباءته على ظهره وخرج إلى الطرقات.  تأكد نيقوديموس من وضع شاله الأسود عليه لكي يخفي هويته وبخاصة أن ساحات المدينة مكتظة بالمخيمين والملتفين يتسامرون حول النار ويحكون القصص. ربما الكثيرون منهم يتحاكون أيضاً عن يسوع.

فكر نيقوديموس أنه ربما يجد يسوع عند قافلة الأفارقة خاصة أنه كان يدافع عنهم في النهار. فأسرع إلى هناك وبالفعل وجد يسوع مع جمع منهم حول النار يتسامرون ويضحكون. عندما اقترب نيقوديموس لمحه يسوع وأدرك من ملابسه أنه أحد شيوخ اليهود فاستأذن من الجمع وذهب إليه.
ـ المعلم يسوع؟
ـ نعم سيدي. هل هناك خدمة أستطيع أن أؤديها لك؟
ـ فقط أريد أن أتحدث إليك
ـ بالطبع. ما الخطب؟
ـ لن نستطيع الحديث هنا..
ـ لا بأس. تعال إلى هذه الخيمة ... أريرو. هل نستطيع أن نستخدم خيمتك الخالية؟ جاء رد أريرو من بعيد بإشارة من يده تدل على القبول على الرحب والسعة.
في الطريق إلى الخيمة حاول يسوع أن يتجاذب أطراف الحديث مع الشيخ الجليل:
ـ  دفء الجو يجعل الجميع يقضون أغلب وقتهم في العراء.
ـ نعم. خاصة في ليلة مقمرة كهذه
ـ أظن أن ما تريد أن تحدثني فيه أمر هام يا شيخي العزيز حتى أنك تأتي إليّ في هذه الساعة المتأخرة.
ـ أتمنى ألا أكون قد أزعجتك
ـ مطلقاً.
ـ أولاً دعني أقول لك أننا نعلم أنك أتيت من الله مُعلِماً، لأن ليس أحد يقدر أن يعمل ما تعمل من آيات إن لم يكن الله معه.
ـ  أشكرك على تقديرك لكن الحقيقة ليس هذا هو المهم المهم أن يولد الإنسان من الله لا فقط أن يأتي من الله.
ـ يولد من الله ؟
ـ نعم ..الحق أقول لك أن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى مملكة الله.
ـ ماذا؟ لا أفهم. ما معنى أن يولد الإنسان "من فوق"؟ وما هي مملكة الله؟
ـ كلنا ولدنا من الماء. ولدنا من ماء يدفق بين الصُلبِ والترائب،  وولدنا في كيس من الماء. بل والحياة كلها جاءت من الماء. أليس هذا صحيحاً؟
ـ نعم. هذا صحيح!
ـ الحق الحق أقول لك: إن كان أحداً لا يولد من الروح بعد أن يولد من الماء، لا يقدر أن يدخل مملكة الله.
ـ كيف؟
ـ مملكة الله روحية وأبدية تحتاج لكي تدخلها لأن تكتسب طبيعة جديدة وكأنك تولد من جديد. فالمولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح.
ـ كيف يولد الإنسان من الروح؟
ـ الولادة الجسدية تعطينا طبيعة جسدية. أما الولادة الروحية فتعطينا طبيعة جديدة روحية. طبيعة حرة طبيعة تسمو فوق المادي والمحسوس وتفهم أشياء لا يفهمها الإنسان الجسدي.
ـ أشياء ضد العقل؟
ـ لا بل فوق العقل.  الإنسان المولود من الروح يفهم أمور الله. أما الإنسان الجسدي فتبدو هذه الأمور بالنسبة له جهالة وأمور غير منطقية.
ـ كيف يمكن أن يكون هذا؟ وما الذي يضمن لي أنها ليست تخاريف؟
ـ تأثيرها يا شيخي العزيز. تأثيرها. الكلام الصادق يجعل الإنسان أفضل حتى وإن لم يكن مفهوماً. ورُبّ كلام بسيط ومنطقي بمنطق الجسد إذا صدقه الإنسان وعاشه يصير أسوأ!
ـ كيف هذا؟
ـ أحكم بالثمر وليس بمنطقية الكلام فكلام الله لا بد أن يخالف منطق البشر، لكنه يغيرهم ويعطيهم طبيعة الله.
ـ وما هي طبيعة الله؟
ـ الحب. يا صديقي الحب. أعذرني.. أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا! إن ما أقوله هو شهادة أنقلها من عالم الروح إلى عالم الجسد. هو كلام سماوي لا يفهمه إلا من نال استنارة خاصة من الله.
ـ كلام سماوي؟ تقصد كلام نازل من السماء؟
ـ نعم كلمة الله النازلة من السماء ، و من سوف يصعد إلى السماء هو من نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في نفس الوقت في السماء.
ـ كيف يصعد إلى السماء وينزل من السماء من هو في نفس الوقت في السماء؟
ـ الروح يوجد في كل مكان.
ـ كيف يمكنني أن أولد من الروح؟ ألعلي أدخل بطن أمي ثانية.
ـ لا زلت تفكر بطريقة جسدية... تولد من الله عندما تصدق الله!
ـ أولد من الله عندما أصدق الله؟  أصدقه فيم؟
ـ بم نحتفل هذه الأيام؟
ـ بالفصح
ـ وما هو الفصح؟
ـ الخروف الذي ذبحه أجدادنا ووضعوا دمه على قائمتي أبوابهم وعتبتها العليا فنجوا من الهلاك في مصر.
ـ وما الذي أنقذ بني إسرائيل هل الدم؟
ـ نعم!
ـ لا بل الإيمان. هل الله يحتاج لعلامة لكي يميز بني إسرائيل من المصريين فيستحيي بني إسرائيل؟ من وضعوا العلامة هم من صدقوا الله وصدقوا أن إيمانهم بالفصح المبذول ضحية عنهم ينجيهم من الموت. تصديق الله هو الذي أنقذهم من الموت.
ـ ولماذا يهتم الله هكذا بالتصديق؟
ـ لأنه يريد أن يصنع علاقة بالإنسان. والعلاقة تحتاج للثقة والتصديق. التصديق هو النقلة التي تنقلنا من عالم الجسد إلى عالم الروح. من عالم المادة إلى عالم الله... مملكة الله.
ـ وما الذي يريدنا الله أن نصدقه الآن؟
ـ ابن الإنسان هو خروف الفصح الجديد.
ـ من هو ابن الإنسان؟
ـ سوف يُرفع إبن الإنسان على خشبة كما رفع موسى الحية في البرية.
ـ الحية النحاسية التي رفعها موسى عندما أصابت الحيات بني إسرائيل؟  
ـ بالضبط. أنت تذكر أن التوارة تقول لنا أن النظرة للحية بإيمان وتصديق كانت تشفي من سم الحية. لماذا تظن؟
ـ إنه التصديق كما تقول. والعبرة بالنتيجة كما تقول..  كانت النظرة تشفي من سم الحية.
لمعت نظرة فهم في عينيّ نيقوديموس وهو يقول هذه العبارة الجديدة  كمن بدأ يجمع الخيوط وكأنه هو الذي يشرح ليسوع..
ـ أظن أنك بدأت تفهم. الحية وخروف الفصح كلها تدريبات على تصديق الله مهما كان ما يقوله غير مفهوم بمقاييس العالم الجسدية. هذا الإيمان. هذا التصديق هو الذي يلد الإنسان ولادة جديدة و يغيّره.
ـ لا زلت لا أفهم ما الذي يدعونا الله لتصديقه الآن؟
ـ سوف يُرفع إبن الإنسان على خشبة كما رفع موسى الحية  وبالإيمان به يولد الإنسان هذه الولادة الروحية التي تجعله يدخل هذا الوجود الجديد الذي لا تستطيع أن تفهمه رغم تفقهك في الشريعة والأنبياء.
ـ لست أفهم شيء مما تقوله.
ـ لقد أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. الله لم يرسل ابنه للعالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم. الذي يؤمن به لا يُدان والذي يؤمن قد دين لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد.
ـ لا زلت لا أفهم لكن أشعر في كلامك بشيء غريب. كنت أظنك مجنوناً لكني الآن أرى أنك تتكلم كلام من عالم آخر يبدو لنا هنا كالجنون. ما معنى ابن الله؟ هل الله يلد ويولد سبحانه؟
ـ لا تحاول أن تفهم الكلام الروحي بعقلك الجسدي. لست أقصد البنوة والأبوة الجسدية. ابن الله هو كلمة الله. هو عقل الله. وعندما يلقي الله كلمته في رحم امرأة فتصير كلمة الله إنساناً يكون هذه الإنسان هو "ابن الله" وعندما يتنازل الله إلى الإنسان في صورة جسد يصير الله المتنازل هذا هو  "ابن الإنسان"
ـ كيف يتنازل الله؟ كيف يتجسد؟
ـ الله منذ القديم يتجسد. ألم يعلن عن نفسه لموسى في عليقة نار لا تحترق؟  من تظن أنه  المبارك الذي كان في النار وحولها؟ ولماذا كان على موسى أن يخلع نعليه؟ هل يخلع نعليه في حضرة النار؟ أيطلب الله من موسى أن يعبد النار؟
ـ هل تقصد؟
ـ نعم الله تنازل في النار لكي يعلن نفسه لموسى. وهو الآن يتنازل في الإنسان ليعلن نفسه لكل البشر. وسوف يبذل هذا الإنسان عن كل البشر كما تذبحون الفصح كفارة عن خطايكم. إن كان خروف الفصح قد نَجَّا بني إسرائيل من الموت في مصر، فالمسيح هو الفصح الجديد الذي ينجي كل من يؤمن به من الموت في كل العالم.
ـ هل المسيا يموت؟
ـ يموت ويقوم ثم لا يموت إلى الأبد  بل يظل حياً عند رب العالمين
ـ لماذا؟
ـ لكي يجعل كل من يؤمن به من البشر يموت ويقوم  ثم لا يموت أبداً ويظل حياً عند الله.
ـ أهذه مملكة الله التي تتكلم عنها.
ـ نعم. هي مملكة الله الروحية الأبدية. مملكة ليست من هذا العالم ولكنها جاءت إلى هذا العالم.
ـ هذا الكلام صعب أن يؤمن به الناس
ـ من يحب النور يأتي إلى النور حتى وإن لم يفهمه. النور الحقيقي قد جاء إلى العالم وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة.
ـ سوف أمضي الآن و أفكر في كلامك ثم سوف أعود إليك
ـ تصبح بخير أيها الشيخ الجليل
مضى نيقوديموس وهو يستعرض في ذهنه ما قاله يسوع ويتذكر أيضاً ما قرأه عن أن ملاك العهد الذي يأتي إلى الهيكل هو نفسه السيد. صاحب الهيكل! هو الملاك المُرسَل وهو صاحب الهيكل المُرسِل في نفس الوقت. كيف يكون هذا؟ كيف من نزل من السماء هو الموجود في السماء؟ وسوف يصعد إلى السماء؟
شعر نيقوديموس أن عقله يدور ويكاد يتوقف لكن قلبه بدأ يشعر بهدوء وطمأنينة لم يكن يشعر بها من قبل.

لم يتكلم يسوع بهذا العمق مع أحد سوى هذا الشيخ لأنه كان يريد أن يعرف الحق. لقد كان يسوع ولا زال يتكلم بعمق فقط مع من يريدون معرفة الحق بصدق. في الحلقات القادمة  من مملكة الله سوف نتابع ما سوف يحدث ليسوع وتلاميذه في أورشليم وفي غيرها من بلاد اليهودية.

 
google-site-verification: google582808c9311acaa3.html