الخميس، ١٤ يناير ٢٠١٠

القبض على المعمدان ويسوع يعود إلى الناصرة

10
كعادته كل يوم، كان يوحنا المعمدان قد قضى الليل كله في الصلاة قبل أن يبدأ يومه في تعميد الذين كانوا يأتون إليه من كل مكان حول الأردن. في المعتاد كان يبدأ يوحنا بعظة طويلة ثم يعمد الجموع حتى بعد الظهر بساعات، ثم يعود للراحة في كهفه وهو أحد الكهوف المنتشرة حول الأردن ليعود مرة أخرى قبل الغروب بقليل ليعمد مرة أخرى. ثم مع غروب الشمس ينعزل في البراري ليصلي طوال الليل حتى فجر اليوم التالي.
كان النهار قد انتصف وتعامدت الشمس على الأرض وبدأت مياه الأردن في الدفء وكان المعمدان قد بدأ في خاتمة عظته الطويلة عن التوبة والأعمال الصالحة:
.... من له ثوبان فليعط من ليس له
.. ومن له طعام ليفعل هكذا
.. أيها العشارون لا تأخذوا ضرائب أكثر مما هو مفروض حكومياً
.. أيها الموظفون لا تقبلوا الرشوة ولا تصدروا تصاريح إلا لمن يستحق
.. لا تعطوا تصاريح بأدوار مخالفة.. .. تذكروا البرج الذي سقط على أصحابه في سلوام!
.. أيها المعلمون لا تضربوا التلاميذ في المدارس بل ربوهم بالحب والحوار
... أيها القضاة لا ترتشوا. ويا أيها المحامون لا تبحثوا عن ثغرات القانون لتخرجوا الفاسدين وتجار المخدرات من الحبس
.. و يا واضعوا القوانين لا تصمموا الثغرات في القوانين قبل القوانين نفسها، بل سنوا قوانين العدل والرحمة
.. يا رجال الشرطة توقفوا عن تقطيع المخالفات لمن يدفعون لكم. وتوقفوا عن ضرب المواطنين في أقسام الشرطة.
.. يا
فجأة وصلت سيارات الأمن المركزي ونزل منها عشرات الجنود وكل منهم يمسك بسلاحه بقبضتي يديه ويخطو بالخطوة السريعة رافعاً قدميه عن الأرض حتى تكاد ركبته تلمس كوعه ثم يضربها في الأرض بكل قوة. انتشرت القوات الخاصة وقوات الأمن المركزي في "كردون"واسع يضم المعمدان وجمهور المعتمدين وهم يهدرون بصيحات بلا مضمون. فقط تعكس قوة وهيبة "الدولة" و ترددها الجبال المحيطة بنهر الأردن..
ثم جاءت سيارات سوداء فخمة و حديثة نزلت منها شخصيات بدت مهمة عندما ظهرت حولها جماعة من الحراس أصحاب الهيبة الشديدة والأجسام الرياضية يرتدون نظارت شمس سوداء ويضعون سماعات دقيقة في آذانهم متصلة بأسلاك رفيعة تختفي في قمصانهم ناصعة البياض وينتشرون حول الشخصيات التي يحرسونها وعيونهم متعلقة بالجبال في كل الاتجاهات.
حضرة صاحب النيافة كاهن الهيكل الأكبر حَنَّان وابن اخته قيافا الكاهن
شمعي رجل الأعمال ونائب دائرة كفر ناحوم
عزائيل إمبراطور الحديد و العضو البارز في الحزب.
وغيرهم من بعض رجال الدولة وموظفيهم المخلصين. كلهم جاءوا ليواجهوا ذلك الموقف الخطير. أدرك المعمدان أن ضيوفه الجدد لم يأتوا لكي يعتمدوا مثل الباقين و إنما قد أتو بسبب عظته الأخيرة التي أذاعتها كل الفضائيات والتي وبخ فيها هيرودس الملك وأشار إلى عدم شرعية زواجه من هيروديا امرأة فيلبس أخيه. لقد أتوا من أجل "هيبة الدولة" التي تجرأ عليها هذا المعمدان. و خشية من الشعب، انتظروا حتى انصرفت جموع المعتمدين ثم ساقوا يوحنا إلى السجن.




عندما سمع يسوع بخبر القبض على يوحنا المعمدان قرر العودة للجليل. وقبل أن يعود إلى قريته في الناصرة قام بجولة في بعض قرى الجليل ومنها قرية كفر ناحوم وعلّم في المجامع هناك وشفى مرضى ليسوا بقليلين، وبعد عدة أيام رجع هو وتلاميذه كل إلى قريته ومدينته فعاد هو إلى الناصرة حيث كان قد تربى.
الناصرة هي أكبر مدمن الجليل واسمها الكنعاني القديم هو "آبل" أو "عين آبل" وقد اجتهد المجتهدون في تفسير اسمها وكانت كل الاجتهادات تدور حول معاني الإشراق والتفتح والعلو والسمو والبشارة والخبر السار. تقع الناصر في قلب الجليل الأدنى على سفح جبل يرتفع عن سطح البحر نحو 400 متر وتحيط بها سلسلة جبال مرتفعة هي جزء من جبال الجليل الأدنى. وتبعد الناصرة حوالي أربعة وعشرين كيلوا متراً عن بحيرة طبرية. كانت مدينة الناصرة شهيرة بشر أهلها وكانت مقر قاعدة عسكرية رومانية كبيرة لذلك كانت العبادات الرومانية الوثنية منتشرة فيها ومستوى التقوى والروحانية فيها كان منخفضاً جداً.
وفي أحد أيام السبوت دخل يسوع إلى مجمع الناصرة وعندما قام ليقرأ من الأسفار، دفع إليه خادم المجمع سفر إشعياء ففتحه على الموضع الذي يقول:
رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ. 2لأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ، وَبِيَوْمِ انْتِقَامٍ لإِلَهِنَا. لأُعَزِّيَ كُلَّ النَّائِحِينَ. 3لأَجْعَلَ لِنَائِحِي صِهْيَوْنَ، لأُعْطِيَهُمْ جَمَالاً عِوَضًا عَنِ الرَّمَادِ، وَدُهْنَ فَرَحٍ عِوَضًا عَنِ النَّوْحِ، وَرِدَاءَ تَسْبِيحٍ عِوَضًا عَنِ الرُّوحِ الْيَائِسَةِ، فَيُدْعَوْنَ أَشْجَارَ الْبِرِّ، غَرْسَ الرَّبِّ لِلتَّمْجِيدِ.

ثم طوى يسوع السفر وسلمه للخادم ووقف ليعظ معلقاً على ما قد قرأ و كانت عيون الجميع شاخصة له وكانوا يتهامسون فيما بينهم.
ـ إنه لا يتكلم كسائر الكتبة والفريسيين.
ـ نعم يتكلم بقوة وبساطة غريبة
ـ أشعر كأن هذه أول مرة أسمع كلمات هذه النبوة. وكأنه يقرأ من كتاب آخر. مع أن الكلام هو الكلام.
ـ أليس هذا يسوع ابن يوسف النجار.
ـ عشنا وشفنا نجار يعلم الكتاب!
ثم ساد صمت عميق عندما نطق يسوع عبارة: " اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم." وراح يقول:
ـ لقد أقبلت عليكم مملكة الله.
بدأ الجميع يتهامسون مستنكرين.
ـ أقبلت علينا مملكة الله؟ كيف هذا؟ هل هذا الفتى يخرف؟ نحن لا نزال تحت الحكم الغربي الروماني!
أضاف يسوع:
ـ مملكة الله لا تأتي بسيوف وعُصيّ ولا تأتي بملك بشريّ.
مملكة الله تأتي عندما يشعر المساكين المرفوضين من كل الناس بالقبول في بيت الله
وعندما يجد المكسوري القلب شفاءًا وعزاءًا وحباً واحتراماً من كل الناس.
عندما يتحرر البشر من أسر خطاياهم ويعتقون من قيد عاداتهم.
تأتي مملكة الله عندما يدخل الجميع في زمن قبول.
عندما يُقبل المريض بمرضه فيشفى والضعيف بضعفه فيقوى والصغير بصغره فيكبر وينضُج.
تأتي مملكة الله عندما يتعزى كل النائحين. النائح على فقدان عزيز عليه والنائح على فقدان حياته الماضية. الذي فقد طفولته بالانتهاك والاعتداء والذي فقد شبابه في الخطايا والذنوب والذي فقد كل عمره في التيه والضياع...
تأتي مملكة الله عندما يستطيع من عاشوا في ثياب الحداد والعزلة ورفض الحياة أن يشعروا بقيمة أنفسهم واستحقاقهم للحياة والجمال.
تأتي مملكة الله عندما ينوح الناس على ما فقدوه ثم يتعزوا ويقبلوا الفرح بعد أن عاشوا حياة عقيمة من اللاحزن واللا فرح.
تأتي مملكة الله عندما تتحول كلمات اليأس إلى تسابيح الشكر والأمل في المستقبل هنا على الأرض وإلى الأبد في السماء.
عندما ينظف الله أرض حياتك التي كانت مقلباً للقمامة ويغرس فيها غابة باسقة الأشجار.
لكي يحدث هذا في حياتك ليس عليك إلا أن تقبل وتوافق وتصدق. فلن تحل مملكة الله في قلوب المتشككين والرافضين والسلبيين.
لن تأتي مملكة الله في قلب يبحث عن أخطائه وأخطاء الآخرين.
لن تأتي مملكة الله في قلب قد أحب الشر وركن إليه وتوقعه.
لن تأتي مملكة الله في قلب استهواه الظلام وكره مواجهة الحقيقة.
ربما تقولون لي لماذا لم تحدث المعجزات التي حدثت في كفر ناحوم هنا في الناصرة؟ أقول لكم أنهم هناك في كفر ناحوم كانوا بسطاء يصدقون ويتوقعون الخير من الله. أما أنتم هنا فتنظرون إلىّ وتقولون أليس هذا النجار؟! الحق أقول لكم ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وبين أهله. لقد عثرتم فيّ ونظرتم إلى بشريتي ونسيتم أن الله قادر أن يحلّ أينما يشاء. أما هناك في كفر ناحوم فقبلوا ومدّوا أياديهم فأخذوا ما أراد الله أن يعطيه لكم.

امتلأ الجميع بالغضب لما قاله يسوع فهاجوا عليه ودفعوه أمامهم بطريقة مهينة فكان يقع على الأرض ثم يقوم واستمروا يدفعوه هكذا حتى حافة الجبل وكانوا يريدون أن يلقوه من هناك لكنه قاومهم واجتاز في وسطهم بقوة عجيبة ومضى إلى بيته وهو موقن أن حياته في الناصرة قد وصلت إلى نقطة نهايتها.

في الحلقات القادمة سوف نتابع يسوع وتلاميذه وهم يتخذون من مدينة كفر ناحوم منطلقاً إلى خدمتهم في كل الجليل.

ليست هناك تعليقات:

 
google-site-verification: google582808c9311acaa3.html