الخميس، ٧ يناير ٢٠١٠

من العين للبئر


9
بعد نهاية موسم الفصح، ترك يسوع وتلاميذه أورشليم ولكنهم لم يعودوا للجليل واستمروا في صحراء اليهودية على الضفة الغربية لنهر الأردن وبدأ تلاميذ يسوع يُعمدون  للتوبة والبداية الجديدة  كل الذين كانوا يأتون إليهم طالبين ملكوت الله.  كان يوحنا المعمدان أيضاً يعمد في عين نون وهي عين من العيون كثيرة المياه المنتشرة في وادي الأردن  وكانت عين نون بالقرب من قرية ساليم التي هي إلى الشرق من قرية نابلس.
شعر بعض تلاميذ يوحنا بشيء من "الغيرة المهنية" فيسوع وتلاميذه يعمدون بالقرب منهم وظنوا أنهم في حالة تهديد ومنافسة، فذهب اثنان منهم إلى يوحنا.
ـ يا معلم. هل تعلم أن يسوع لا يزال في اليهودية وهو يُعمد بالقرب منها هنا؟
ـ هل هذا صحيح؟ هذا أمر رائع!
ـ ليس رائعاً تماماً فالجميع أصبحوا يأتون إليه هو وقَلَّ عدد الذين يأتون إلينا.. لقد رأينا هذا الصباح عائلة بأكملها كانوا آتين إلينا ليعتمدوا فجاءهم شخص يجري من بعيد ويقول لهم أن يسوع يعمد بالقرب من هنا فغيروا وجهتهم في الحال وذهبوا معه لكي يعتمدوا من يسوع.
أطرق يوحنا قليلاً وبدأ يتكلم وكأنه ينظر إلى بُعد آخر..
ـ لا يقدر أحد أن يأخذ شيئاً إلا ما يعطيه الله له.
ـ أنت المعمدان وقد أعطاك الله أن تعمد!
ـ  من له العروس فهو العريس، وأما صديق العريس فيقف بجانبه ويفرح له.
ـ عريس ماذا وعروس ماذا؟
ـ الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع، والذي من الأرض هو أرضي.
ـ لا أفهم شيئاً!
ـ عزيزي داود. الذي أرسله الله يتكلم بكلام الله. أما الذي من الأرض فهو أرضيّ ويتكلم بكلام الأرض.
ـ وهل هناك كلام للأرض وكلام للسماء؟
ـ الذي يأتي من السماء يتكلم بكلام صعب لكنه يغير، ومن يخرج من الأرض يتكلم بكلام الأرض السهل الذي يرضي الغرائز ويظل الإنسان أرضياً جسدياً.  ومن يريد الأرض سوف يُقبل على كلام الأرض ومن يبغى السماء سوف يذهب وراء كلام السماء حتى وإن لم يفهمه.
ـ هل تقصد أننا من الأرض ونتكلم كلام الأرض؟
ـ أنا لست المسيح، لقد جئت فقط لأشير إليه وأعد الطريق أمامه ولعلكم تذكرون إني قلت كذلك. لذلك ينبغي أن أنقص أنا وهو يزيد.
ـ هل تقصد أن يسوع الذي من الناصرة.. هو الآتي من الله
ـ أنا أحمل كلمة من الله أما يسوع فهو نفسه كلمة الله
ـ وما الفرق؟
ـ لا أدري... ولكنني أشعر أن روح النبوة الذي عليّ يقول لي هذا.
ـ ماذا يقول؟
ـ يقول أن يسوع هذا هو شهادة الله الكاملة عن نفسه ومن يصدقها فهو الذي يشهد ويؤمن أن الله صادق وبذلك تكون له الحياة الأبدية!
ـ هذا كلام غريب ولا يمكن تصديقه. كيف يكون هذا المعلم الشاب الذي كان بالأمس نجاراً هو شهادة الله الكاملة عن نفسه! أنا لا أصدق هذا!
ـ معك حق يا داود هذا كلام غريب وصعب التصديق، لكنني أقول ما أشعر به. على أي حال سوف نرى فإن كان هو بالفعل كذلك سيُثبِت ذلك وإن كان مدعياً فهذا سيظهر أيضاً.

علم يسوع وتلاميذه أن الفريسيين أدركوا أنه يُعَمِّد ويصير الكثيرون تلاميذ له. وحيث أن يسوع لم يكن يريد أن يصطدم بالمؤسسة الدينية أكثر من ذلك، خاصة بعد ما فعله في الهيكل في الفصح، فقرر أن يترك اليهودية ويعود للجليل. وفي طريق العودة كان ينبغي أن يمر بإحدى قرة السامرة في طريقه للجليل حيث أن الطريق الصحراوي إلى الشمال طويل وإذا اضطروا للوقوف للتزود بالماء أو الطعام فليس سوى قرى السامرة في الطريق. وبالرغم من معارضة تلاميذه الذين لم يكونوا يريدون دخول أي قرية للسامريين الكفار، عبر إلى قرية بالسامرة كانت تدعى سوخار وهي بقرب الضيعة التي وهبها يعقوب لابنه يوسف وكانت هناك بئر حفرها يعقوب بنفسه عندما جاء إلى شكيم  وتسمى بئر يعقوب.
كان السامريون يعبدون الله ولكن بطريقتهم الخاصة على جبل جرزيم بدلاً من جبل الحصن (صهيون) في أورشليم القدس. وكانت عبادتهم قد دخلتها ممارسات وثنية كثيرة بسبب أن أغلبهم من الذين  ولدوا في السبي في أشور فاكتسبوا عبادات آشورية وثنية أدخلوها إلى عبادة الله.

انتظرت حتى الظهيرة لتتأكد أن كل النسوة قد ملأن جرارهن وعدن إلى بيوتهن. عندئذ خرجت وهي تتمنى أن تنجز المهمة باسرع وقت. ارتدت ملابسها، ولم تنس وضع بعض الحليّ وشدت حزاماً حول خصرها ليظهر تفاصيل جسدها قليلاً، ثم وضعت بعض الألوان على وجهها. عادات لم تعد تشعر فيها بأي سعادة.
أتمت استعدادها للخروج بشكل تلقائي خالي من أي تفكير مثل الجندي الذي يرتدي ملابس الميدان ويرتب الأسلحة في حزامه ليواجه الحرب، ثم قبل أن تخرج ألقت نظرة على المرآة، فأدركت أن عيناها حمراوتان من عدم النوم طوال الليلة السابقة فزادت من الكُحل حولهما لئلا يظهر احمرارهما. وقبل أن تمرق من الباب، أخذت نفساً عميقاً و ارتدت قناع القوة مستعدة للهجوم الذي أثبتت لها التجارب السابقة أنه خير وسيلة للدفاع. لقد أثبتت كل هذه الدفاعات والأسلحة نجاحها على مر السنوات فلطالما ساعدتها لباقتها وروح مرحها المشوبة بالسخرية اللاذعة، أن تخرج من المواقف الصعبة وتتعايش مع أهل تلك القرية الصغيرة "سوخار" برغم سمعتها السيئة. كان الجميع يتكلمون عنها ولكن من وراء ظهرها. لم يجرؤ أحد أن يوجه لها أي اتهام أو هجوم واضح، وإلا تعرض لسيل جارف من سخريتها وصار أضحوكة الصبيان والبنات في الحيّ.
أما خلف هذه الدفاعات وبالرغم من مظهر القوة، كانت تبذل مجهوداً نفسياً شديداً لكي تبدو هكذا أمام الناس بينما قلبها في الداخل ينزف ببطء شديد طوال سنوات عمرها الثلاثين. لذلك كانت تتجنب الظهور أمام الناس كثيراً محاولة تقليل العبء النفسي الثقيل الذي كانت تبذله لتظل محافظة على مظهرها القويّ هذا.
تركته نائماً حتى الظهر، فقد كان يشرب الخمر حتى الصباح بعد أن وصل عند الغروب مع قافلته التجارية. وعدها بالزواج أكثر من مرة، لكنه لم يجد مبرراً يجعله يفي بوعده وهو التاجر الذي يفكر في كل شيء بمنطق الربح والخسارة. كلما حلت قافلته بالسامرة في طريقه من دان في أقصى الشمال إلى مصر في الجنوب، كان يميل ليبيت لبعض الأيام عندها. كان هذا يحدث مرتين أو ثلاث مرات فقط في السنة.
حاولت مراراً أن تقنعه بالزواج حتى ترفع رأسها قليلاً في قريتها الصغيرة سوخار بدلاً من أن تكون مجرد عشيقة التاجر المسافر، فكان دائماً يرد عليها قائلاًُ: " لماذا الزواج؟ وماذا أخذتِ من الزواج؟ لقد تزوجت خمس مرات وكلهم تركوك. لعلي بهذه ا لطريقة لا أتركك!"
قالت في نفسها: " لا تتركني؟!.. وهل أنت معي؟ أنت فقط تتوقف للحصول على بعض المتعة في الطريق!" لكنها لم تقو أبداً على قطع علاقتها به، فبالرغم من كونها تدرك تماماً أن كل كلمات الحب والغزل التي يقولها هي فقط مقدمة لكي ينال منها ما يريد، إلا أنها كانت "تعيش" على هذه الكلمات وكأنها نبتة صغيرة في الصحراء لا ترى المطر إلا مرتين في السنة!
خرجت من الدار متثاقلة وهي مطمئنة أن معظم النسوة في بيوتهن الآن يعددن الطعام لأزواجهن وأطفالهن..
آه الأطفال.. أخذوهم آباءهم..... خافوا عليهم من أن تربيهم امرأة مثلي!!
مسحت الدمعة المتمردة التي قفزت فوق دفاعاتها وهي تقول لنفسها:
"لا ليس الآن... ليس هنا.... لتكوني قوية.. نحن الآن في الشارع. الشارع الذي لا يرحم!"
وضعت جرتها على رأسها لتحميها قليلاً من شمس الظهيرة الحارقة وهي تفكر:
لكم ستكون مياه البئر ساخنة الآن! لكن ماذا أفعل؟ لقد تعبت من نظرات النسوة. صحيح أن إحداهن لن تجرؤ أن توجه لي كلمة واحدة ، لكني أشعر في الداخل أني أقل منهن جميعاً.
في الليلة السابقة لم يرحمها النوم ويأتي إلا مع الفجر فقد قضت ليلتها كلها تتابع شريط حياتها الذي بدأ منذ ثلاثين سنة عندما وُلدت كأول ابنة غير مرغوب فيها لأحد التجار المسافرين دائماً.
لعل ذلك ما جعلني أبحث عن التجار المسافرين والرجال اللاهين وأحاول أن أجعلهم يمكثون معي! ..
عندما خطرت ببالها هذه الفكرة، ندت عن طرف ثغرها الذي تعلوه حَسَنة جذابة، ابتسامة سخرية سوداء.
أبي غائب.. أمي حزينة كئيبة القلب لا تكاد تبرح فراشها.... أنا الصبية ذات العشرة أعوام كنت أفعل كل شيء ــ أرعى المنزل واخوتي الصغار وأخرج أيضاً للعمل... لكم كنت أتمنى أن تحتضني أمي، ولكنها كانت إما نائمة، أو تبكي أو إذا استيقظت، تشكي لي همومها وآلامها وشكوكها في خيانة أبي في البلاد التي يذهب إليها. كنت أواسيها وأخفف عنها ثم "أضعها في سريرها" وأذهب أنا إلى "شغل البيت". لقد كنت أنا، الطفلة الصغيرة، أُماً للجميع!!
لكَم كنت أشتاق لحضن أمي أو أبي، أو أي حضن... أي لمسة حنان! لكَم كنت أتوق لأن أتكلم فيسمعني أحد! لكَم كنت أشتاق لأن أبكي فتأخذني أمي في حضنها! لكَم كنت أتمنى لأن أحصل على الاهتمام و"الدلع" الذي كان صديقاتي يحصلن عليه من آبائهن وأمهاتهن!
عندما جائتني "العادة الشهرية" هَرعتُ إلى أمي خائفة: "ما هذه الدماء التي تتدفق مني يا أمي؟ هل سأموت! " فأجابت بعينين متثاقلتين: " لا لن تموتي.." ثم ألقت لي ببعض قطع القماش القديم وهي تقول دون أن تتجشم حتى عناء النظر إليّ :" سوف يحدث هذا كل شهر. هذا طبيعي... لقد كبرت!" ثم عادت إلى فراشها.
لا أذكر حناناً أو اهتماماً سوى اهتمام ابن عمّي.....ابن عمي؟ ....... آه لماذا تأتي كل هذه الذكريات الآن؟ لقد دفنتها منذ سنوات...
كانت أمي ترسلني إلى بيت عمّي من وقت لآخر لأقترض بعض الطعام... بعض القمح لنطحنه أو قليل من الزيت.. فقد كانت دائماً نقودنا تنفذ قبل أن يعود أبي من سفره الطويل. لكم كنت أشعر بالخزي! لكن صرخات اخوتي الصغار الجائعة كانت سياطاً تلهب ظهري وتدفعني إلى هناك! لكن بعد قليل، أصبحت أحب الذهاب، بل كنت أنا الذي اختلق الأسباب للذهاب.
....... ما الذي يجعلني أتذكر هذه الأشياء الآن؟
حاولت أن تنفض الذكريات عن رأسها المتعب وتواصل مسيرها للبئر، لكن سرعان ما عادت الذكريات متدفقة وكأنها مجموعة ذباب جائعة في بداية الربيع وقد عثرت على طبقاً من العسل!
بالطبع أثارت ذكرى ابن العم في قلبها مشاعر مختلطة من الشجن والخزي معاً.
كان ابن عمي هو الإنسان الوحيد الذي لمس جسدي في ذلك الوقت. لم تكن لمساته هي بالتحديد ما أريد، لكنها كانت لمسات على أيّ حال. بالطبع سرعان ما تطورت لمسات الحنان إلى ما هو غير ذلك وشيئاً فشيئاً أصبحت لدي "علاقة جنسية كاملة" بابن عمّي وأنا في سن العاشرة! كانت هذه هي النهاية الرسمية لطفولتي. أصبحت "امرأة" في سن العاشرة.
الحقيقة لم أكن أشعر أن هناك شيئاً ما خطأ، فقد كان يعطيني ما أريد وأعطيه أنا ما يريد. كان يعطيني بعض الحنان الذي كان يمدّني بالقوة لأكمل حياتي الصعبة، وأنا أعطيه ما يجعله يطفئ نار الذكورة المتأججة في جسده حديث البلوغ. لا أستطيع أن أنكر أنني أيضاً شعرت ببعض اللذة وتعلقت بها بل وأعتمدت عليها تماماً وكأنها صديقي الوحيد في هذه الحياة التي ليس فيها إلا المسؤوليات.
هكذا مبكراً في حياتي تعلمت أنه لا حنان بدون ثمن؟ الرجال لا يعطون الحب إلا في مقابل الجنس، وعليّ أن "أدفع". لقد قبلت هذه الحقيقة كإحدى حقائق الحياة التي لا تُناقَش. وهكذا دفعت.. ودفعت. لكنهم كانوا دائماً يأخذون ما يريدون ثم يمضون في طريقهم طال الوقت أم قصر. حتى الزواج لم يمنعهم من الرحيل. أخذوا الأطفال وتركوني أنوح وأبكي وليس من يمسح دموعي إلا تتابع الأيام الرتيبة غير المبالية.
من يصدق أن هذه الدورة تكررت خمس مرات؟! ربما اختلفت السيناريوهات قليلاً.. لكنها نفس النهاية الحزينة كل مرّة. وفي كل مرة كنت أظن أن الحبيب الجديد سيكون مختلفاً وسيحترم الزواج والأسرة ... ما أغباني!
معه حق أليفاز.. ماذا أفادني الزواج؟ ربما، كما يقول، أن سبب بقاءه معي حتى الآن هو أننا لم نتزوج. ربما الرجال لا يحبون الالتزام. ولكنّي واثقة أن أليفاز أيضاً إذا ملّ مني سوف يرحل، بل إذا تغير مسار قافلته فلا يعود يمر بسوخار، سوف ينسى حتى أنه عرف امرأة من السامرة. أعرف تماماً أنه كاذب وكل ما يريده هو الجنس. ولكن ماذا أفعل؟ لا أستطيع أن أعيش وحدي!
يا لشقاوتي! فأنا كمن يشرب ماءً مالحاً. ومع كل شربة، يُمَنِّي نفسه بالارتواء، ثم لا يزيده الشرب إلا عطشاً!
لم تفق من أفكارها إلا عندما وصلت للبئر. أنزلت الجرة وهمّت بأن تدلّيها إلى البئر. وقبل أن تصل بها إلى مستوى الماء، سمعت خلفها صوتاً عميقاً هادئاً:
- اعطيني لأشرب.
التفتت لتجد رجلاً في الثلاثينات من عمره، جميل المظهر تشي نظراته بحنان ممزوج بالثقة الشديدة بالنفس. كما تدل ثيابه ولهجته أنه يهوديّ.
رجل يهودي هنا عند البئر يتحدث إليّ دون سابق معرفة، ويطلب مني أن أعطيه ليشرب! ما هذا؟! هل هذه هلوسة بسبب عدم النوم؟
بسرعة حاولت أن تداري ارتباكها بكلمات بدأت متعثرة، ثم تدريجياً استعادت قوتها و جرأتها المعتادة في الحديث، ولم تنس أن تضيف للكلمات بعض نظرات الإغراء المثيرة التي أصبحت تخرج منها بطريقة عفوية معتادة وكأنها برنامجاً يعمل تلقائياً:
- كيف تطلب مني لتشرب وأنت رجل يهوديّ وأنا امرأة سامرية؟!
بادرها بعبارة جعلتها تشعر أكثر فأكثر أنها ليست أمام رجل عاديّ.
- لو كنت تعلمين عطية الله، ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب، لطلبت أنت مِنه فأعطاك ماءً حياً.
من هذا الرجل؟ هل يريد مني ماءً ؟أم يريد أن يعطيني ماء؟ أم فقط يحاول أن يتجاذب أطراف الحديث معي؟ لا أظن أنه يريد ما يريده الآخرون. ثم.. الله؟ عطية الله؟ ... أنا لا أحب الكلام عن الله! ولكن مالي أشعر أن وقع كلمة "الله" على لسان هذا الرجل بالذات يأتي مختلفاً؟ ...عطية الله؟ هل الله يعطيني أنا؟ وماذا أعطيته في المقابل؟ ثم ما علاقة الله وعطية الله بهذا الرجل؟ وما له يتكلم بهذه الثقة: "لو كنت تعلمين من هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب!"... من تكون؟! ثم ما هو الماء الحيّ هذا؟
تذكرت فجأة أنها منذ لحظات كانت تفكر في نفسها أنها مثل الذي يشرب ماءً مالحاً..
ألعل هذا الرجل سمع الفكرة التي دارت بذهني من لحظات؟ أم أن عطشي وجفافي أصبحا واضحين لهذه الدرجة؟
منذ أول وهلة كانت قد لاحظت أنه ليس كباقي الرجال. يكفي أنه ينظر إلى عيناها مستقيماً ولا تجول عيناه بجسدها كما يفعل أغلب الرجال. ثم أن نظراته بها شيء ما ينفذ إلى القلب، ليس القلب الذي أحببت به الخمسة السابقين ولا أليفاز الحاليّ وإنما إلى قلب القلب!
لم تدر لماذا فجأة شعرت أنها أمامه نفس الطفلة الصغيرة ذات الأعوام العشرة وكأن السنوات العشرين التي مرت بها قد لملمت ثيابها وزيجاتها وأطفالها ووقفت جانباً تراقب هذا اللقاء.
إنه بالطبع لا يتكلم عن الماء الذي في هذا البئر، ولا في أي بئر. شيء ما في أعماقها أدرك أن هذا الرجل وصل إلى عطشها الحقيقي الذي حاولت طوال تلك السنوات العشرين أن ترويه. لكنها لم ترد أن تصدق. سيطر الخوف المشوب بالفرح والترقب على كل كيانها. حاولت أن تهرب من هذه المواجهة، في الوقت الذي كانت تشعر فيه بكل كيانها يندفع نحو ذلك "الماء" الذي يشير إليه دون أن تعرف ما هو وكيف يمكن لهذا الرجل أن يعطيها إياه وما علاقة هذا بالله؟!
أجابت وكأنها لا تفهم ماذا يقصد، لكي تعطي نفسها فرصة لتستجمع نفسها:
- يا سيد، لا دلو لك والبئر عميقة. فمن أين لك الماء الحيّ؟ ألعلك أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا البئر، وشرب منها هو وبنوه ومواشيه؟".
فهم يسوع أنها تراوغ فتكلم بصراحة أكبر:
- كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً. ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد، بل الماء الذي أعطيه أنا يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية.
قضت هذه الكلمات على كل محاولاتها للفهم، فبرغم ذكائها الفطري الحادّ، نجحت كلمات يسوع في تعطيل كل برامج عقلها تماماً. لكن قلبها كان يشعر براحة غريبة. شعرت فجأة بالعجز وفقدان السيطرة على كل كيانها. هذا الشعوردائماً ما يجعلها ترتعب رعباً شديداً، فهي لم تفقد السيطرة للحظة على عقلها أو مشاعرها أو حتى جسدها طوال سنوات عمرها الثلاثين. حتى أثناء ممارسة الجنس، تعودت أن تكون مسيطرة تماماً على كل ردود أفعالها. في كل العلاقات السابقة كانت تعد نفسها للفراق منذ بداية العلاقة حتى لا تتألم. فقدان السيطرة للحظة واحدة بالنسبة لها هو الموت المحقق! لكن هذه المرة، شيء ما جعلها تتصالح مع شعورها بالعجز والاحتياج؟ أسئلة كثيرة تزاحمت في عقلها؟
ما هو "ماء الحياة" هذا؟ ومن هذا الإنسان ليقول هكذا بجسارة أنه يستطيع أن يعطي ماء من يشربه لا يعطش إلى الأبد؟ ولماذا أشعر أنه صادق؟ لا ليست كلماته.. إنها عيناه.. فيهما حُبّ وقبول لم أرهما من قبل. عقلي لا يفهم معنى القبول، لكن شيء ما بداخلي يبدو وكأنه يفهم هذا الذي لا يفهمه عقلي. أشعر أن كياناً ما يرتوي بداخلي كلما نظرت إلى عينيه. ليست فيهما نظرة الرجال المتعالية على النساء، ليس فيهما حب الرجال أو شهوتهم، ليس فيهما احتقار اليهود لنا نحن السامريين. ليس فيهما كل ما توقعت أن أجده. فيهما شيئ غريب! هذا فقط هو ما يجعلني أميل لتصديق ما يقوله هذا الرجل من كلمات تبدو كعين الجنون! لولا أن نظرات عينيه تقولان أنه أصدق إنسان في الوجود لاعتبرت ما يقوله هذيان مجذوب من مجاذيب الهيكل!
مهما كان هذا الماء، فأنا أريده بأي ثمن. أنا أريد أي شيء يقول عليه هذا الرجل. شيء ما بداخلي يصدّقه ويريد أن يطلب منه هذا الماء، لكن شيئاً ما آخر خائف ومتردد.
قالت وكأنها تحاول أن تمنع طفلة بداخلها تريد أن تهرع إليه وترتمي في أحضانه:
- يا سيد... اعطني هذا الماء
ثم أضافت لكي تغطي الكلام مرة أخرى
- لكي لا أعطش ولا آتي إلى هنا لأستقي!
- اذهبي وادعي زوجك وتعالي إلى ههنا.
آه..... يبدو أن هذا الرجل يعرف كل شيء! إن ما شعره قلبي من البداية كان صحيحاً. هذا الرجل بالفعل ليس رجلاً عادّياً. أشعر كأن نظراته ترى حياتي كلها منذ بدايتها حتى نهايتها.
- ليس لي زوج!
- حسناً قلت ليس لي زوج لأنه كان لك خمسة أزواج والذي لك الآن ليس هو زوجك. هذا قلت بالصدق.
شعرت وكأن قلبها يغوص حتى قدميها. انهارت كل دفاعاتها في هذه اللحظة.. وشعرت بعجر وضعف لم تشعر به حتى عند ولادتها. حاولت أن تتكلم. لم تخرج الكلمات. ثم انسابت بعض الكلمات منها دون أي وعي.
- يا سيد أرى أنك نبيّ!
- ماهذا الذي قُلتِ؟!
- لقد اعترفت بالحقيقة. ما يقوله هذا الرجل هو الحقيقة!
- وكيف شَعُرتِ بالأمان هكذا لتعترفي بالحقيقة؟
- أنا أشعر معه بالأمان.
- كيف؟ ألم أعلمك ألا تشعري بالأمان مع أي إنسان؟
- لا أدري. ولكن هذا الرجل ليس كجميعهم؟
- من أدراكِ يا غبية؟
- لا أدري. هكذا شعرت، فهكذا قلت!
- كم مرة علّمتك ألا تقولي ما تشعرين به ، بل عكسه تماماً!
- لم أستطع!
دار هذا الحوار بينها وبين طفلة داخلها!
ثم استجمعت أطراف شجاعتها المعهودة واستدعت بسرعة أرشيفها من المعلومات الدينية، فهذا الرجل غالباً لا تنفع معه الحيل الأنثوية المعتادة. ثم قالت وهي تحاول أن تبتعد بأقصى سرعة عن
تلك النقطة التي وصل إليها الحديث.
- آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون أن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه.
- يا امرأة صدقيني أنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب. أنتم تسجدون لما لستم تعلمون. أما نحن فنسجد لما نعلم. لأن الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق. لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له. الله روح. والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا.
صدقيني؟! ...... لم يقل لي أحد من قبل هذه الكلمة الحميمة.. ثم من هو هذا الأب؟ السجود هو لله......هل الله أب؟ هذا كلام غريب! ما معنى الأبوة؟... ثم ما معنى أن الله روح؟ وهل يمكن السجود لله في أي مكان؟!! حقاً أنا أمام رجل مختلف يقول كلاماً مختلفاً!
هذا الكلام الذي يقوله يشبه نبوات الكتاب عن الملكوت الآتي. كلام ربما لن يتحقق إلا بعد أن يأتي المسيا نفسه!......نحن لا نحب اليهود.. ولاهم يحبوننا.. لكننا جميعنا ننتظر المسيا في نهاية الزمان! نحن كلنا نعرف أصله ومصدره ونعرف أنه سينصفنا جميعاً، اليهود والسامريين والجميع. لكن متى يأتي؟
ألعله يأتي أساساً؟!!
- أنا أعلم أنا مسيا الذي يقال له المسيح يأتي. فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء.
- أنا الذي أكلمك هو.
دارت الدنيا بها... أمسكت بحافة البئر لكي لا تهوي على الأرض.
أنا أتكلم مع رجل قال لي لتوه أنه المسيا!!!!
لو لم يكن قد قال ما قاله، ولو لم تكن عيناه تشعان هذا الصدق العجيب، لضحكت من أعماق قلبي!
المسيا جاء!!
وجاء لي أنا!!!
المسيا يأتي للهيكل بمجد وقوة.. لا يمكن أن يكون هذا هو المسيا!
لكن لا يمكن أيضاً أن يكون هذا إنساناً عادياً. هذا إما مجنون، أو هو المسيا!
لكن كيف يكون هذا مجنوناً؟!
المسيا يظهر على سحاب السماء بمجد في نهاية الزمان فيخضع الأرض تحت قدميه! المسيا لا يظهر لامرأة متعددة الأزواج على بئر بسوخار السامرة!
عقلي يكاد ينفجر!
إن كان هو المسيا، فيجب أن يعرف الجميع. لا يمكن أن أحتفظ بهذا الخبر لنفسي.
إنه هو المسيا!
لم تدر المرأة إلا وقد تركت جرتها معه عند البئر، وهرعت للمدينة التي كانت تهرب منها وهي تردد عبارة واحدة فقط: " هلموا انظروا انساناً قال لي كل ما فعلت. ألعل هذا هو المسيح؟!"
وقعت كل دفاعاتها وهي تجري
لم تعد تبذل أي جهد في مواجهة الناس
لم تعد تحتاج لقناع القوة، أو حيل التفوق
شعرت أن شيئاً ما أكبر منها وأكبر من الحياة نفسها يحتويها
شعرت بقوة وجرأة لم تشعر بهما من قبل
قال لي كل ما فعلت!
لقد صار عاري الذي كنت أخفيه، برهان صدق بشارتي وحجتي أنني، أنا، قد وجدت المسيا الذي يفتش عنه الجميع!
أنا السامرية المزواجة الزانية التي تعيش في الحرام ظهر لي من تنتظره كل الأجيال
يا لها من كرامة!
يا له من رد لاعتباري لم أكن أتخيله!
وعندما سمع أهل المدينة هذه المرأة بالذات تقول هذا، هرعوا وراءها وأتوا إليه، فهي ليست امرأة عادّية. الكل يعرفها ويعرف أنها لا تنسى نفسها هكذا إلا إذا كان ما تقوله مهماً.
أخذوا يتكلمون معه ويكلمهم وهي واقفة وسط الصفوف تنظر إلى أهل قريتها وتنظر إلى يسوع وابتسامة غريبة تعلو وجهها، وجزء من عقلها يُعدّ ما ستقوله لأليفاز لإنهاء العلاقة!



هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

" لقد صار عاري الذي كنت أخفيه برهان صدق بشارتي وحجتي " ... نعم ، لقد صار خوفي وضعفي الذي كنت أخفيه برهان المسحة والتأثير الذي تحدثه شهادتي ....

دعــاء عيــاد

 
google-site-verification: google582808c9311acaa3.html