الاثنين، ٢٣ أغسطس ٢٠١٠


11
بدأ يسوع يطوف كل قرى ومدن الجليل منطلقاً من كفر ناحوم فزار بيت صيدا وكورزين والكثير من قرى الجليل،  فيما عدا الناصرة،  وكان يعلم في مجامعهم وينادي بحلول مملكة الله. فذاع خبره في كل القرى والمدن المحيطة فكان الجميع يحضرون له السقماء والمرضى المصابين بأمراض وأوجاع مختلفة. المشلولين والمرضى النفسيين والعمي والصم والبكم وكان يشفيهم جميعاً فتبعته جموع كثيرة من الجليل ومن العشر المدن التي كانت تسكنها غالبية وثنية،  ومن أورشليم العاصمة ومن كل اليهودية ومن الأراضي الواقعة عبر نهر الأردن.
اشترى يسوع وأمه بيتاً صغيراً بالمال القليل الذي حصلا عليه من بيع بيتهم في الناصرة ودكان النجارة الخاص بيوسف الذي توفى منذ حوالي سنة.  وبجوار بيت يسوع اشترى سمعان وزوجته بيتاً آخر صغير. أما التلاميذ من غير المتزوجين فكانا ضيوفاً في بيت يسوع وبيت سمعان وكانوا جميعاً يعيشون معاً حياة شبه مشتركة ويطوفون مدن الجليل معاً ويعودون إلى كفر ناحوم لأيام قليلة بعدها ينطلقون في سبيل الله مرة أخرى.  وعندما كانوا يسافرون كانوا يقيمون في بيوت الناس في البلاد التي كانوا يذهبون إليها و يأكلون مما يقدم لهم أهل البلاد التي يزوروها. لم يحملوا ثياباً ولا  أحذية إضافية ولا فضة ولا ذهباً بل كانوا يقدمون خدمتهم وتعليمهم مجاناً.
وكان يسوع يخرج إلى الخلاء في البلاد التي كان يذهب إليها ويجتمع إليه الناس من كل مكان خارج البلدة لأن الشوارع الضيقة داخل تلك البلاد الصغيرة لم تكن تتسع للجموع التي تتجمع وتسير خلف يسوع من بلد إلى بلد. وكان دائماً ما يصعد إلى الجبال أو التلال ليعلم وتسمعه الجموع الملتفة حول الجبل أو يأخذ قارباً وينزل به إلى بحر الجليل وتتجمع الناس على الشاطئ ليسمعوه. وكان تلاميذ يسيرون حوله ليشقوا له طريقاً بين الجموع حيث كانت جموع الناس من مرضى وسقماء يجرون ويلقون بأنفسهم على يسوع لكي يلمسوه فيشفوا.
وذات يوم كان يسوع يعلم الجموع فأبصر رجلاً أبرص أكل المرض يداه وزحف على عينيه فأفقدهما البصر لكنه كان لا يزال يسمع.  فوقف خائفاً بعيداً عن الجمع لا يجرؤ أن يقترب لأن القانون كان يقضي ألا يقترب هؤلاء البرص من الناس لكي لا ينقلوا العدوى،  بل كانوا ينادون أثناء مشيهم في المدن.. أنا نجس! ... انا نجمس!  لكي يسمع الناس فيبتعدون.  وكان من ينسى أن يفعل ذلك يرجم.

عندما سمع هذا الأبرص بيسوع جازف بالاقتراب من الجمع وهو يقول خائفاً .... أنا نجس! .... أنا نجس! ....فلاحظ يسوع صراخه حتى أنه كان كاد يشوش على تعليم يسوع. فاجتاز يسوع بين الجموع حتى وصل إليه. فما كان من الرجل الأبرص إلا أن سجد إلى الأرض أمامه.
ـ  يا سيد إن أردت تقدر أن تطهرني
فمد يسوع يده إليه ولمسه
ـ أريد فاطهر
فذهب برصه في الحال
ـ  لماذا لمستني؟ كنت تستطيع أن تقول فقط أن أطهر فأطهر. أنا أعلم أنك تشفي بكلمة!
أجابه يسوع وهو يستمر في لمسه يديه المقروحتين وعيناه التي اغلقتها الأنسجة الليفية الناتجة من الالتهاب.
ـ نعم يا بني. جلدك يحتاج فقط لكلمة، أما قلبك فيحتاج للكثير من اللمسات.
بكى الأبرص واحتضن يسوع. فراح يسوع يربت على كتفه وشعره، ثم أمسك يسوع بكتفيه وأعاده للوراء ونظر إلى عينيه اللتان بدأتا تظهران من خلف الأنسجة الملتهبة كالشمس التي تظهر من وراء الغيوم.
ـ أنظر. لا تقل لأحد ولكن اذهب أر نفسك للكاهن وقدم القربان الذي أمر به موسى شهادة للشعب. وإن سألك أحد ما الذي حدث. قل شفاني الله!

عندما عاد يسوع إلى بيته في كفر ناحوم كان في إحدى الليالي نائماً عندما سمع قرعاً شديدا ًعلى الباب حتى كاد ينكسر، فقام وهو شبه نائم يحاول أن يفهم ما يحدث متحسساً طريقه في الظلام حتى وصل إلى المزلاج ففتحه وفي ضوء القمر بالخارج رأى زائر منتصف الليل هذا. لقد كان السيد شمعي بن برخي التاجر الكبير.
 مفاجأة!
ـ أهلاً يا سيد شمعي  خير.... ما الخطب؟
ـ أريد أن أتحدث معك أيها المعلم. لقد استئذنت من تلميذك الساهر عند الباب أن أتحدث إليك قليلاً. هل لي أن أدخل؟
ـ تفضل !
ـ أنا آسف لمجيئي في هذا الوقت، فأنت تعلم، لا أستطيع أن آت أثناء النهار. أنت تدرك بالطبع حساسية مركزي السياسي.
ـ نعم أدرك ذلك
ـ سوف أدخل في الموضوع مباشرة. أنت تعلم أني مرشح لعضوية مجلس الشعب عن دائرة كفر ناحوم.
ـ نعم أعلم
ـ وتعلم أيضاً أنني مرشح الحزب الحاكم، ولابد أن أفوز بهذه الانتخابات
ـ أعلم. وستفوز
ـ أنا أيضاً أدرك أن شعبيتك في كل الجليل فاقت كل تصور. وأنا أحترمك وأقدرك جداً. بل أنا أرى، وأرجو أن يكون رأيي هذا بيننا فقط، أنك بالفعل نبيّ عظيم وأن الله كما يقول العامة، قد افتقد شعبه بإرسالك لنا.
ـ باب التوبة مفتوح أمام الجميع، ولكن القليلون هم الذين سوف يدخلون من هذا الباب الضيق ويسيرون الطريق الصعب الصاعد لأعلى.
ـ لا افعم
ـ الباب ضيق والطريق كرب لأنه ضد شهوات الإنسان التي توحشت بسبب الانفصال عن الله،  أما الباب الواسع والطريق الرحب السهل فهو الطريق الذي يسير بعيداً عن الله نحو الهاوية.
بدا بعض الارتباك البسيط على وجه السيد شمعي، فحاول العودة مرة أخرى إلى الموضوع الذي جاء من أجله.
ـ باختصار ودون لف أو دوران. أنا أحتاج لشعبيتك لكي أفوز في الانتخابات. أريدك أن تظهر معي في الندوات واللقاءات. لا تحتاج لأن تقول شيئاً بل يرى الناس أنك معي ونلتقط بعض الصور التي نعلقها هنا وهناك. لن يكلفك الأمر شيئاً، بل ربما يكون مربحاً. أنت بالطبع تحتاج لبعض التبرعات للإنفاق على رحلاتك المتعددة في كل قرى ومدن الجليل.    قال شمعي هذا وهو ينظر نظرة تجعله يبدو كمن يدرك بواطن الأمور في كل مجالات الحياة.
ـ أنا أعلم أنك تظن أن تحتاج إليّ فقط للفوز في الانتخابات،  ولكن الحقيقة هي أن ما تحتاجه مني أكثر  وأهم بكثير من ذلك.
ـ لا لست أريد إلا النجاح في الانتخابات.
ـ أنا أعلم ذلك.  وسوف تنجح في الانتخابات بمساعدتي أو بدونها. أنت تبحث عن مملكة الأرض وسوف تحصل عليها. أما ما أهتم به أنا فهو أمر آخر. إنها مملكة الله التي تدوم إلى الأبد.
أيقن السيد شمعي أنه يتكلم لغة  أخرى غير التي يتكلمها يسوع، وبفطنة التاجر الشاطر،  تأكد أن الصفقة التي جاء ليبرمها لن تتم، فقرر أن ينسحب بهدوء وأناقة، كما أنه اطمأن لتأكيد يسوع له أنه سيفوز في الانتخابات فهي على أي حال كلمة من نبيّ.
ـ  طاب مساؤك أيها المعلم وأعتذر مرة أخرى على الإزعاج. أرجو أن تسامحني.
ـ  لا عليك. طاب مساؤك يا أخي. سوف أصلي من أجلك. لا للفوز في الانتخابات بل لما هو أهم من ذلك.

وفي طريق يسوع إلى فراشه، نادته مريم أمه
ـ  يسوع
ـ  نعم يا أماه، هل أنت مستيقظة؟
ـ  نعم.  أوقظني القرع على الباب
ـ  أعتذر يا أمي لما أسببه لك من إرهاق. عودي لنومك
ـ يا بنيّ أنا أشفق عليك. الحياة بهذه الطريقة ضرب من الانتحار. هوِّن عليك يا حبيبي.
ـ إنه وقت للعمل يا أماه. يجب أن أعمل عمل الذي أرسلني مادام الوقت مناسباً،.  يأتي بعده وقت  لا يستطيع أحد فيه أن يعمل.
ـ ليقوك الله يا ولدي!
ـ تصبحين على خير يا أماه.                
إلى اللقاء في الحلقة القادمة من مملكة الله









12
عاد يسوع إلى كفر ناحوم بعد رحلة تعليمية ودَعَوية في قرى الجليل. و كان أحد الرجال الموسرين في كفر ناحوم قد نظم جلسة تعليمية في بيته الكبير نسبياً دعا إليها الكثير من الفريسيين ومعلمي الناموس الذين قد أتوا من كل قرية من قرى الجليل واليهودية وأورشليم. وعندما عرف الناس بوجود يسوع في هذا "المؤتمر" فاجتمع جمع كبير في البيت وحوله فتوقف يسوع عن الجدل الفكري اللاهوتي مع الفريسيين ومعلمي الناموس والتفت للجموع المتزاحمين حول البيت، وبدأ يعلمهم كعادته بلغة بسيطة وباستخدام الأمثال.
-   يا إخوتي الدليل على أن التعليم من الله هو أنه يغير الحياة ويُصلح المجتمع. أما التعليم والدين والتدين الذي يظل قشرة جميلة تخفي تحتها كل الموبقات فهذا ليس سوى تخدير، والتخدير ليس من الله بل من إبليس. الله لا يُخَدَّر وإنما هو يُغَيِّر. الثمر الصالح يدل على صلاح الشجرة والثمر الفاسد ينبئ عن جذورها الفاسدة. وسيأتي يوم توضع الفأس على كل الشجر الفاسد فيجتث ويزرع الله زرعاً صالحاً يثمر ثمراً يدوم. فافحصوا إذاً أشجار حياتكم ومن ثمارها تعرفونها. لا تحاولوا أن تلصقوا ثماراً صالحة من أعمال بر وتقوى على شجرة فاسدة الجذور فسوف تسقط وتعود الشجرة إلى ثمارها. افحصوا أصل الشجرة وجذرها. اجتثوا الشجر الفاسد المزروع في الأرض المالحة وازرعوا شجرة حياتكم الجديدة في أرض خصبة نظيفة.
-        وكيف نعرف الأرض الخصبة من الأرض المالحة؟
-   الأرض الخصبة تعلن عن نفسها بالأشجار المثمرة الموجودة فيها. فإن كان الثمر ينبئ بصلاح الشجر فالشجر المثمر ينبئ بصلاح الأرض المزروع فيها.
فجأة ظهرت مجموعة من الرجال أحدثوا هرجاً ومرجاً حيث كانوا يزاحمون وسط الجموع محاولين أن يصلوا إلى يسوع وهم يحملون إنساناً مشلولاً وعندما لم يقدروا أن يخترقوا الجموع ليصلوا إلى يسوع انسحبوا بعيداً.
عاد يسوع لتعليمه..
_ لا تلتفتوا إلى ما يقوله الناس بل إلى ما يفعلونه. سوف تجدوا الكثيرين أصحاب كلام عذب وحلو وبليغ لكن أعمالهم لا تتوافق مع كلامهم. ابحثوا عن الحقيقة ولا تنخدعوا بمعسول الكلام!

فجأة سُمعَ صوت قادم من سقف البيت الذي كان "المؤتمر" منعقد به وأدرك الجميع أن أناساً قد تسلقوا الجدران وبدأوا يعبثون بالسقف. لم يصدق البعض لكن بعد دقائق كانت فتحة كبيرة قد أُحدِثت بالسقف حيث كان هناك أربعة رجال فوق السقف يزيلون بهمة عروق الخشب وأعواد الشجر والنخيل المصنوع منها السقف محدثين جلبة شديدة وعاصفة من التراب ملأت البيت وأعمت عيون الجموع.  تصايح الناس متذمرين ومهددين  وخرج صاحب البيت مسرعاً لكي يستدعي الشرطة الرومانية. أما هؤلاء الرجال الأربعة فلم يوقفهم شيء حتى أكملوا الفتحة الكبيرة في السقف، ولدهشة الجميع بدأوا يدلون من السقف سريراً مربوطاً بأربعة حبال يمسك به كل واحد منهم. وعندما تدلى هذا السرير المصنوع من عروق الخشب والحبال والمفروش بسعف النخيل وجدوا عليه رجلاً هازلاً ضامر العضلات زائغ العينين يبدو عليه أنه مشلول بلا حراك لسنوات طويلة.
عندما استقر السرير أمام يسوع في وسط المنزل كان الرجل يملأه الخوف من الجموع الغاضبة المتذمرة التي أحاطت به ولم تطمأنه إلا نظرات يسوع الحانية وابتسامته الهادئة عندما قال:
-        "يا بني مغفورة لك خطاياك!"
حدث صمت بين الجموع. التفت يسوع إلى بعض الكتبة الجالسين.
-   لماذا تفكرون في قلوبكم أنني قد كفرت عندما قلت لهذا الرجل المسكين أن خطاياه مغفورة؟ أنا أعلم أن الذي يغفر الخطايا هو الله. ولكي تعلموا أن الله قد أعطاني هذا السلطان ها أنا أقدم لكم دليل كلامي.
-        يا بُنَيَّ قم. احمل سريرك واذهب إلى بيتك
نظر المفلوج إلى يسوع متعجباً
-   كيف؟ أنا مفلوج لسنين. أنا لا أستطيع حتى الوقوف على قدميّ. كيف تقول لي أن أحمل سريري وأمشي ذاهباً إلى بيتي؟ لقد رأيت بعينيك كيف دلاني أصحابي من السقف. اشفني أولاً من شللي ثم عندئذ أستطيع أن أحمل سريري وأمضي.
-        لقد شفيتك بالفعل ولكنك لن تختبر هذا إلا إذا صدقت وقمت. قُم وسوف تجد جسدك يقوم معك.
-   بدأ المشلول يحاول. ووسط ذهول الجميع وقف وبدأ يخطو خطواتِ مرتعشة والجمع حوله يفسحون له ليس فقط لكي يمشي لكن لكي يشاهدوه. اقترب من الباب فصاح به يسوع.
-   عد إلى هنا. ألم أقل لك أن تحمل سريرك؟ هل تنتظر أن يحمل لك الناس سريرك؟ أنت الآن قادر على حمل مسئوليات حياتك. هيا احمل سريرك وعد إلى بيتك وأهلك وعملك.

بهتت الجموع وتعجبوا وقالوا فيما بينهم أن هذا لم يُرَ قط من قبل. كيف يمكن لإنسان أن يكون له سلطان مغفرة الخطايا. إنه يساوي نفسه بالله!   إنه كافر زنديق! وإن كان كذلك كيف يؤيده الله بالآيات والعجائب؟!
صار يسوع لغزاً كبيراً في كل اليهودية والجليل والناس منقسمة حوله بين مؤمن متحمس وكاره حانق ومتشكك حائر. 

الجمعة، ٢٠ أغسطس ٢٠١٠

هل تأتي مملكة الله بسيوف وعصيّ؟


9
كعادته كل يوم، كان يوحنا المعمدان قد قضى الليل كله في الصلاة قبل أن يبدأ يومه في تعميد الذين كانوا يأتون إليه من كل مكان حول الأردن. في المعتاد كان يبدأ يوحنا بعظة طويلة ثم يعمد الجموع حتى بعد الظهر بساعات، ثم يعود للراحة في كهفه وهو أحد الكهوف المنتشرة حول الأردن ليعود مرة أخرى قبل الغروب بقليل ليعمد مرة أخرى. ثم مع غروب الشمس ينعزل في البراري ليصلي طوال الليل حتى فجر اليوم التالي.
كان النهار قد انتصف وتعامدت الشمس على الأرض وبدأت مياه الأردن في الدفء وكان المعمدان قد بدأ في خاتمة عظته الطويلة عن التوبة والأعمال الصالحة:
.... من له ثوبان فليعط من ليس له
.. ومن له طعام ليفعل هكذا
.. أيها العشارون لا تأخذوا ضرائب أكثر مما هو مفروض حكومياً
.. أيها الموظفون لا تقبلوا الرشوة ولا تصدروا تصاريح إلا لمن يستحق
.. لا تعطوا تصاريح بأدوار مخالفة.. .. تذكروا البرج الذي سقط على أصحابه في سلوام!
.. أيها المعلمون لا تضربوا التلاميذ في المدارس بل ربوهم بالحب والحوار
... أيها القضاة لا ترتشوا. ويا أيها المحامون لا تبحثوا عن ثغرات القانون لتخرجوا الفاسدين وتجار المخدرات من الحبس
.. و يا واضعوا القوانين لا تصمموا الثغرات في القوانين قبل القوانين نفسها، بل سنوا قوانين العدل والرحمة
.. يا رجال الشرطة توقفوا عن تقطيع المخالفات لمن يدفعون لكم. وتوقفوا عن ضرب المواطنين في أقسام الشرطة.
.. يا
فجأة وصلت سيارات الأمن المركزي ونزل منها عشرات الجنود وكل منهم يمسك بسلاحه بقبضتي يديه ويخطو بالخطوة السريعة رافعاً قدميه عن الأرض حتى تكاد ركبته تلمس كوعه ثم يضربها في الأرض بكل قوة. انتشرت القوات الخاصة وقوات الأمن المركزي في "كردون"واسع يضم المعمدان وجمهور المعتمدين وهم يهدرون بصيحات بلا مضمون. فقط تعكس قوة وهيبة "الدولة" و ترددها الجبال المحيطة بنهر الأردن..
ثم جاءت سيارات سوداء فخمة و حديثة نزلت منها شخصيات بدت مهمة عندما ظهرت حولها جماعة من الحراس أصحاب الهيبة الشديدة والأجسام الرياضية يرتدون نظارت شمس سوداء ويضعون سماعات دقيقة في آذانهم متصلة بأسلاك رفيعة تختفي في قمصانهم ناصعة البياض وينتشرون حول الشخصيات التي يحرسونها وعيونهم متعلقة بالجبال في كل الاتجاهات.
حضرة صاحب النيافة كاهن الهيكل الأكبر حَنَّان وابن اخته قيافا الكاهن
شمعي رجل الأعمال ونائب دائرة كفر ناحوم
عزائيل إمبراطور الحديد و العضو البارز في الحزب.
وغيرهم من بعض رجال الدولة وموظفيهم المخلصين. كلهم جاءوا ليواجهوا ذلك الموقف الخطير.  أدرك المعمدان أن ضيوفه الجدد لم يأتوا لكي يعتمدوا مثل الباقين و إنما قد أتو بسبب عظته الأخيرة التي أذاعتها كل الفضائيات والتي وبخ فيها هيرودس الملك وأشار إلى عدم شرعية زواجه من هيروديا امرأة فيلبس أخيه. لقد أتوا من أجل "هيبة الدولة" التي تجرأ عليها هذا المعمدان. و خشية من الشعب، انتظروا حتى انصرفت جموع المعتمدين ثم ساقوا يوحنا إلى السجن.

عندما سمع يسوع بخبر القبض على يوحنا المعمدان قرر العودة للجليل. وقبل أن يعود إلى قريته في الناصرة قام بجولة في بعض قرى الجليل ومنها قرية كفر ناحوم وعلّم في المجامع هناك وشفى مرضى ليسوا بقليلين، وبعد عدة أيام رجع هو وتلاميذه كل إلى قريته ومدينته فعاد هو إلى الناصرة حيث كان قد تربى.

الناصرة هي أكبر مدمن الجليل واسمها الكنعاني القديم هو "آبل" أو "عين آبل" وقد اجتهد المجتهدون في تفسير اسمها وكانت كل الاجتهادات تدور حول معاني الإشراق والتفتح والعلو والسمو والبشارة والخبر السار. تقع الناصر في قلب الجليل الأدنى على سفح جبل يرتفع عن سطح البحر نحو 400 متر وتحيط بها سلسلة جبال مرتفعة هي جزء من جبال الجليل الأدنى. وتبعد الناصرة حوالي أربعة وعشرين كيلوا متراً عن بحيرة طبرية. كانت مدينة الناصرة شهيرة بشر أهلها وكانت مقر قاعدة عسكرية رومانية كبيرة لذلك كانت العبادات الرومانية الوثنية منتشرة فيها ومستوى التقوى والروحانية فيها كان منخفضاً جداً.

وفي أحد أيام السبوت دخل يسوع  إلى مجمع ااناصرة وعندما قام ليقرأ من الأسفار، دفع إليه خادم المجمع سفر إشعياء ففتحه على الموضع الذي يقول:
رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ. 2لأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ، وَبِيَوْمِ انْتِقَامٍ لإِلَهِنَا. لأُعَزِّيَ كُلَّ النَّائِحِينَ. 3لأَجْعَلَ لِنَائِحِي صِهْيَوْنَ، لأُعْطِيَهُمْ جَمَالاً عِوَضًا عَنِ الرَّمَادِ، وَدُهْنَ فَرَحٍ عِوَضًا عَنِ النَّوْحِ، وَرِدَاءَ تَسْبِيحٍ عِوَضًا عَنِ الرُّوحِ الْيَائِسَةِ، فَيُدْعَوْنَ أَشْجَارَ الْبِرِّ، غَرْسَ الرَّبِّ لِلتَّمْجِيدِ.

ثم طوى يسوع السفر وسلمه للخادم ووقف ليعظ معلقاً على ما قد قرأ و كانت عيون الجميع شاخصة له وكانوا يتهامسون فيما بينهم.
ـ إنه لا يتكلم كسائر الكتبة والفريسيين.
ـ  نعم يتكلم بقوة وبساطة غريبة
ـ أشعر كأن هذه أول مرة أسمع كلمات هذه النبوة. وكأنه يقرأ من كتاب آخر. مع أن الكلام هو الكلام.
ـ أليس هذا يسوع ابن يوسف النجار.
ـ عشنا وشفنا نجار يعلم الكتاب!
ثم ساد صمت عميق عندما نطق يسوع عبارة: " اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم." وراح يقول:
ـ لقد أقبلت عليكم مملكة الله.
بدأ الجميع يتهامسون مستنكرين.
ـ أقبلت علينا مملكة الله؟ كيف هذا؟ هل هذا الفتى يخرف؟ نحن لا نزال تحت الحكم الغربي الروماني!
أضاف يسوع:
ـ مملكة الله لا تأتي بسيوف وعُصيّ ولا تأتي بملك بشريّ.
 مملكة الله تأتي عندما يشعر المساكين المرفوضين من كل الناس بالقبول في بيت الله
 وعندما يجد المكسوري القلب شفاءًا وعزاءًا وحباً واحتراماً من كل الناس.
عندما يتحرر البشر من أسر خطاياهم ويعتقون من قيد عاداتهم.
تأتي مملكة الله عندما يدخل الجميع في زمن قبول.
عندما يُقبل المريض بمرضه فيشفى والضعيف بضعفه فيقوى والصغير بصغره فيكبر وينضُج.
تأتي مملكة الله عندما يتعزى كل النائحين. النائح على فقدان عزيز عليه والنائح على فقدان حياته الماضية. الذي فقد طفولته بالانتهاك والاعتداء والذي فقد شبابه في الخطايا والذنوب والذي فقد كل عمره في التيه والضياع...
تأتي مملكة الله عندما يستطيع من عاشوا في ثياب الحداد والعزلة ورفض الحياة أن يشعروا  بقيمة أنفسهم واستحقاقهم للحياة والجمال.
تأتي مملكة الله عندما ينوح الناس على ما فقدوه ثم يتعزوا ويقبلوا الفرح بعد أن عاشوا حياة عقيمة من اللاحزن واللا فرح.
تأتي مملكة الله عندما تتحول كلمات اليأس إلى تسابيح الشكر والأمل في المستقبل هنا على الأرض وإلى الأبد في السماء.
عندما ينظف الله أرض حياتك التي كانت مقلباً للقمامة ويغرس فيها غابة باسقة الأشجار.
لكي يحدث هذا في حياتك ليس عليك إلا أن تقبل وتوافق وتصدق. فلن تحل مملكة الله في قلوب المتشككين والرافضين والسلبيين.
لن تأتي مملكة الله في قلب يبحث عن أخطائه وأخطاء الآخرين.
لن تأتي مملكة الله في قلب قد أحب الشر وركن إليه وتوقعه.
لن تأتي مملكة الله في قلب استهواه الظلام وكره مواجهة الحقيقة.
ربما تقولون لي لماذا لم تحدث المعجزات التي حدثت في كفر ناحوم هنا في الناصرة؟ أقول لكم أنهم هناك في كفر ناحوم كانوا بسطاء يصدقون ويتوقعون الخير من الله. أما أنتم هنا فتنظرون إلىّ وتقولون أليس هذا النجار؟! الحق أقول لكم ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وبين أهله. لقد عثرتم فيّ ونظرتم إلى بشريتي ونسيتم أن الله قادر أن يحلّ أينما يشاء. أما هناك في كفر ناحوم فقبلوا ومدّوا أياديهم فأخذوا ما أراد الله أن يعطيه لكم.

امتلأ الجميع بالغضب لما قاله يسوع فهاجوا عليه ودفعوه أمامهم بطريقة مهينة فكان يقع على الأرض ثم يقوم واستمروا يدفعوه هكذا حتى حافة الجبل وكانوا يريدون أن يلقوه من هناك لكنه قاومهم واجتاز في وسطهم بقوة عجيبة ومضى إلى بيته وهو موقن أن حياته في الناصرة قد وصلت إلى نقطة نهايتها.

في الحلقات القادمة سوف نتابع يسوع وتلاميذه وهم يتخذون من مدينة كفر ناحوم منطلقاً إلى خدمتهم في كل الجليل.













10
كانت الشمس قد جلست مستريحة في عرشها في كبد السماء ترسل أشعتها القوية في ظهر هذا اليوم من شهر يونيو القائظ  والذي اختاره يسوع  ليسافر إلى كفر ناحوم. كان مدخل كفر ناحوم لا يكاد يرى من سحب الغبار التي تخلفها وراءها سيارات التوك توك  التي تتسلق المرتفعات الترابية للشارع الرئيسي المؤتدي إلى كفر ناحوم بعد أن قررت البلدية شق بطنه بالطول لتغيير مواسير المجاري والتي ظهر بعضها رابضاً على جانبي الشق الهائل كديناصورات ضخمة سوداء من الفخار المطلي بطبقة سوداء من الدهان. راحت بعض سيارات التوك توك تأخذ طريقها إلى قلب المدينة بينما تجمع عدد كبير من هذه السيارات الصغيرة السوداء والبنية الداكنة عند الموقف الواقع في بداية الشارع كمجموعة من الذباب تتجمع حول فم طفل صغير مريض كآلاف الأطفال الذين تذخر بهم كفر ناحوم.

كفر ناحوم بلدة صغيرة تقع على الشمال الغربي من بحر الجليل وتبعد أكثر قليلاً من ميلين عن بيت صيدا وهي تقع على ما يُطلق عليه "طريق البحر" وهو الطريق الممتد من دمشق إلى بتوليمايس و قد أعطاها هذا الموقع أهمية استراتيجية وتجارية كبرى. وكحال المدن الساحلية التي يتشغل أهلها بالتجارة، لم يكن لشعب هذه المدينة اهتماماً كبيرا بالأمور الروحية. وبالرغم من وجود مجمع يهودي كبير بها، وبالرغم من أن شعبها كان يؤدي كل الفروض الدينية إلا أن قلوبهم لم يكن بها أي شوق لمعرفة الله.

بدأت لافتات الانتخابات المكتوبة غالباً باللون الأحمر  تظهر في كفر ناحوم وتتكاثر مثلما تتكاثر البثور الحمراء ذات الرؤوس الصديدة البيضاء على وجه مريض بنقص المناعة.  ولم تعد تظهر الأشجار وأكشاك الكهرباء بسبب الملصقات المليئة بالكلمات الرنانة والوعود البرّاقة وصور المرشحين الذين تطل وجوههم بجدية وصرامة بالغة والكثيرون منهم لا تدري لماذا تشبه صورهم كثيراً الصور التي تأتي في صفحات الحوادث بالصحف اليومية!
بالطبع النسبة الأكبر من اللافتات من نصيب مرشح الحزب كبير التجار شمعي بن برخي، الذي هو أيضاً رئيس الغرفة التجارية و رئيس مجلس إدارة نادي كفر ناحوم الذي ينافس كبرى أندية أورشليم العاصمة في الدوري اليهودي. أما رئاسة مجلس المدينة فهي من نصيب ابنه الأكبر رأوبين بين برخي ومديرية الأمن يرأسها الابن الأوسط داود بن برخي في حين لم يرد الابن الأصغر شمعون الانخراط في سلك الوظائف الرسمية واكتفى بإدارة شركة برخي تورز السياحية.
نزل يسوع وتلاميذه  ومنهم بطرس وزوجته ضيوفاً في بيت حماة بطرس في كفرناحوم وبمجرد وصولهم ذهب يسوع عادة إلى مجمع البلدة وصار يعلم. فبهتوا من تعليمه لأنه كان يعلم كلام الله كمن هو صاحب الكلام فيدخل إلى المعنى مباشرة ويلمس القلوب. لقد كان يسوع يدخل بكلام التوارة إلى قلب الإنسان كمن هذا الكلام كلامه وكمن يعرف قلب الإنسان الذي يستقبل الكلام.
فصرخ واحد من الجمع قائلاً
ـ ما لنا ومالك أيها الناصري؟ أن أعرف أنك أنت القدوس المعين من الله. أعرف أنك الوحيد المولود من الله بلا أب بشري، والوحيد  الذي بلا خطية منذ الولادة إلى الممات لكننا مع ذلك لا نريدك!
ـ لست أنت الذي تتكلم وإنما ذاتاً أخرى بداخلك تتكلم ولها اقول أن تخرس وتدعك تؤمنه بما تعرف أنه الحق.!
ولما خرجوا من المجمع وكان اليوم سبت ذهبوا إلى بيت حماة بطرس في كفر ناحوم فوجدوا حماة بطرس مريضة بحمى غريبة أصابتها منذ أسابيع ولم تفارقها. فدخل يسوع إلى غرفة نومها.
ـ ما بك يا خالة يوكابد؟
ـ لا أدري يا بني؟ هل أنت يسوع صديق سمعان؟ يبدو من مظهرك أنك رجل دين
ـ فراستك واضحة يا خالة.
 ثم قال باسماً
ـ كيف لا تعرفين ذلك واسمك يوكابد على اسم والدة النبي موسى.
ضحكت الخالة يوكابد. وابتسم يسوع ومد يده ووضع يده على جبهتها. ظنته الخالة يوكابد يجسها ليعرف شدة حرارتها، ولكن بمجرد أن مد يسوع يده ولمس جبهتها، فارقتها الحمى حالاً. ومد لها يده وأقامها من فراشها.
ـ ما هذا؟ أشعر بقوة غريبة في جسدي. لقد عدت أفضل مما كنت. مجداً للرب. أنت بحق نبيّ أيها المعلم الصالح. قامت الخالة يوكابد يملؤها النشاط وأخذت تعد وليمة ليسوع وأمه مريم وتلاميذه وقضى الجميع أمسية جميلة يأكلون ويضحكون.
سرى  خبر شفاء حماة سمعان في البيوت المجاورة كما تسري النار في أعواد الذرة الجافة التي يجمعها أهل هذه المدينة الريفية فوق أسطح منازلهم كمخزون استراتيجي للوقود. وأغلب بيوت كفر ناحوم المتواضعة مبنية من الطوب الذي أتقنوا صناعته وخبزه كما كان أجدادهم يفعلون في مصر منذ مئات السنين. فأتوا بعد غروب الشمس، أي بعد انقضاء السبت، ومعهم كل المرضى والسقماء والذين تعذبهم أفكار شريرة ولا يستطيعون التحكم في أنفسهم، والذين شخصياتهم منقسمة ومفككة.

واجتمعت المدينة كلها عند الباب. فشفى مرضى كثيرين وأعاد السلام لقلوب كسيرة.  ومنذ ذلك الحين كان على التلاميذ أن يعملوا بجد لتنظيم خدمة يسوع وإلا فلن يحصل على أي راحلة أو يأكل أي طعام لأن كل الناس في كل المنطقة كانت تريد أن تأتي إليه فكل مريض كان يلمس يسوع كان يشفى مباشرة!

اتخذ يسوع ورفاقة من كفر ناحوم قاعدة انطلاق لخدمتهم التي بدأوا فيها يجوبون كل قرى الجليل ثم يعودوا إلى كفر ناحوم ومنها ينطلقون. في الحلقات القادمة سوف نتابع هذه الرحلات. 

الخميس، ١٩ أغسطس ٢٠١٠

الذي يأتي من السماء والذي يأتي من الأرض


8
بعد نهاية موسم الفصح، ترك يسوع وتلاميذه أورشليم ولكنهم لم يعودوا للجليل واستمروا في صحراء اليهودية على الضفة الغربية لنهر الأردن وبدأ تلاميذ يسوع يُعمدون للتوبة والبداية الجديدة  كل الذين كانوا يأتون إليهم طالبين ملكوت الله.  كان يوحنا المعمدان أيضاً يعمد في عين نون وهي عين من العيون كثيرة المياه المنتشرة في وادي الأردن  وكانت عين نون بالقرب من قرية ساليم التي هي إلى الشرق من قرية نابلس. شعر بعض تلاميذ يوحنا بشيء من "الغيرة المهنية" فيسوع وتلاميذه يعمدون بالقرب منهم وظنوا أنهم في حالة تهديد ومنافسة، فذهب اثنان منهم إلى يوحنا.
ـ يا معلم. هل تعلم أن يسوع لا يزال في اليهودية وهو يُعمد بالقرب منها هنا؟
ـ هل هذا صحيح؟ هذا أمر رائع!
ـ ليس رائعاً تماماً فالجميع أصبحوا يأتون إليه هو وقَلَّ عدد الذين يأتون إلينا.. لقد رأينا هذا الصباح عائلة بأكملها كانوا آتين إلينا ليعتمدوا فجاءهم شخص يجري من بعيد ويقول لهم أن يسوع يعمد بالقرب من هنا فغيروا وجهتهم في الحال وذهبوا معه لكي يعتمدوا من يسوع.
أطرق يوحنا قليلاً وبدأ يتكلم وكأنه ينظر إلى بُعد آخر..
ـ لا يقدر أحد أن يأخذ شيئاً إلا ما يعطيه الله له.
ـ أنت المعمدان وقد أعطاك الله أن تعمد!
ـ  من له العروس فهو العريس، وأما صديق العريس فيقف بجانبه ويفرح له.
ـ عريس ماذا وعروس ماذا؟
ـ الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع، والذي من الأرض هو أرضيّ
ـ لا أفهم شيئاً!
ـ عزيزي داود. الذي أرسله الله يتكلم بكلام الله. أما الذي من الأرض فهو أرضيّ ويتكلم بكلام الأرض.
ـ وهل هناك كلام للأرض وكلام للسماء؟
ـ الذي يأتي من السماء يتكلم بكلام صعب لكنه يغير، ومن يخرج من الأرض يتكلم بكلام الأرض السهل الذي يرضي الغرائز ويظل الإنسان أرضياً جسدياً.  ومن يريد الأرض سوف يُقبل على كلام الأرض ومن يبغى السماء سوف يذهب وراء كلام السماء حتى وإن لم يفهمه.
ـ هل تقصد أننا من الأرض ونتكلم كلام الأرض؟
ـ لقد جئت فقط لأشير إليه وأعد الطريق أمامه ولعلكم تذكرون إني قلت كذلك. لذلك ينبغي أن أنقص أنا وهو يزيد.
ـ هل تقصد أن يسوع الذي من الناصرة.. هو الآتي من الله.
ـ أنا أحمل كلمة من الله أما يسوع فهو نفسه كلمة الله
ـ وما الفرق؟
ـ لا أدري... ولكنني أشعر أن روح النبوة الذي عليّ يقول لي هذا.
ـ ماذا يقول؟
ـ يقول أن يسوع هذا هو شهادة الله الكاملة عن نفسه ومن يصدقها فهو الذي يشهد ويؤمن أن الله صادق وبذلك تكون له الحياة الأبدية!
ـ هذا كلام غريب ولا يمكن تصديقه. كيف يكون هذا المعلم الشاب الذي كان بالأمس نجاراً هو شهادة الله الكاملة عن نفسه! أنا لا أصدق هذا!
ـ معك حق يا داود هذا كلام غريب وصعب التصديق، لكنني أقول ما أشعر به. على أي حال سوف نرى إن كان هو بالفعل كذلك.

علم يسوع وتلاميذه أن الفريسيين أدركوا أنه يُعَمِّد ويصير الكثيرون تلاميذ له. وحيث أن يسوع لم يكن يريد أن يصطدم بالمؤسسة الدينية أكثر من ذلك، خاصة بعد ما فعله في الهيكل في الفصح، فقرر أن يترك اليهودية ويعود للجليل. وفي طريق العودة كان ينبغي أن يمر بإحدى قرة السامرة في طريقه للجليل حيث أن الطريق الصحراوي إلى الشمال طويل وإذا اضطروا للوقوف للتزود بالماء أو الطعام فليس سوى قرى السامرة في الطريق. وبالرغم من معارضة تلاميذه الذين لم يكونوا يريدون دخول أي قرية للسامريين الكفار، عبر إلى قرية بالسامرة كانت تدعى سوخار وهي بقرب الضيعة التي وهبها يعقوب لابنه يوسف وكانت هناك بئر حفرها يعقوب بنفسه عندما جاء إلى شكيم  وتسمى بئر يعقوب.
كان السامريون يعبدون الله ولكن بطريقتهم الخاصة على جبل جرزيم بدلاً من جبل الحصن (صهيون) في أورشليم القدس. وكانت عبادتهم قد دخلتها ممارسات وثنية كثيرة بسبب أن أغلبهم من الذين  ولدوا في السبي في أشور فاكتسبوا عبادات آشورية وثنية أدخلوها إلى عبادة الله.

انتظرت حتى الظهيرة لتتأكد أن كل النسوة قد ملأن جرارهن وعدن إلى بيوتهن. عندئذ خرجت وهي تتمنى أن تنجز المهمة باسرع وقت. ارتدت ملابسها، ولم تنس وضع بعض الحليّ وشدت حزاماً حول خصرها ليظهر تفاصيل جسدها قليلاً، ثم وضعت بعض الألوان على وجهها. عادات لم تعد تشعر فيها بأي سعادة.
أتمت استعدادها للخروج بشكل تلقائي خالي من أي تفكير مثل الجندي الذي يرتدي ملابس الميدان ويرتب الأسلحة في حزامه ليواجه الحرب، ثم قبل أن تخرج ألقت نظرة على المرآة، فأدركت أن عيناها حمراوتان من عدم النوم طوال الليلة السابقة فزادت من الكُحل حولهما لئلا يظهر احمرارهما. وقبل أن تمرق من الباب، أخذت نفساً عميقاً و ارتدت قناع القوة مستعدة للهجوم الذي أثبتت لها التجارب السابقة أنه خير وسيلة للدفاع. لقد أثبتت كل هذه الدفاعات والأسلحة نجاحها على مر السنوات فلطالما ساعدتها لباقتها وروح مرحها المشوبة بالسخرية اللاذعة، أن تخرج من المواقف الصعبة وتتعايش مع أهل تلك القرية الصغيرة "سوخار" برغم سمعتها السيئة. كان الجميع يتكلمون عنها ولكن من وراء ظهرها. لم يجرؤ أحد أن يوجه لها أي اتهام أو هجوم واضح، وإلا تعرض لسيل جارف من سخريتها وصار أضحوكة الصبيان والبنات في الحيّ.
أما خلف هذه الدفاعات وبالرغم من مظهر القوة، كانت تبذل مجهوداً نفسياً شديداً لكي تبدو هكذا أمام الناس بينما قلبها في الداخل ينزف ببطء شديد طوال سنوات عمرها الثلاثين. لذلك كانت تتجنب الظهور أمام الناس كثيراً محاولة تقليل العبء النفسي الثقيل الذي كانت تبذله لتظل محافظة على مظهرها القويّ هذا.
تركته نائماً حتى الظهر، فقد كان يشرب الخمر حتى الصباح بعد أن وصل عند الغروب مع قافلته التجارية. وعدها بالزواج أكثر من مرة، لكنه لم يجد مبرراً يجعله يفي بوعده وهو التاجر الذي يفكر في كل شيء بمنطق الربح والخسارة. كلما حلت قافلته بالسامرة في طريقه من دان في أقصى الشمال إلى مصر في الجنوب، كان يميل ليبيت لبعض الأيام عندها. كان هذا يحدث مرتين أو ثلاث مرات فقط في السنة.
حاولت مراراً أن تقنعه بالزواج حتى ترفع رأسها قليلاً في قريتها الصغيرة سوخار بدلاً من أن تكون مجرد عشيقة التاجر المسافر، فكان دائماً يرد عليها قائلاًُ: " لماذا الزواج؟ وماذا أخذتِ من الزواج؟ لقد تزوجت خمس مرات وكلهم تركوك. لعلي بهذه ا لطريقة لا أتركك!"
قالت في نفسها: " لا تتركني؟!.. وهل أنت معي؟ أنت فقط تتوقف للحصول على بعض المتعة في الطريق!" لكنها لم تقو أبداً على قطع علاقتها به، فبالرغم من كونها تدرك تماماً أن كل كلمات الحب والغزل التي يقولها هي فقط مقدمة لكي ينال منها ما يريد، إلا أنها كانت "تعيش" على هذه الكلمات وكأنها نبتة صغيرة في الصحراء لا ترى المطر إلا مرتين في السنة!
خرجت من الدار متثاقلة وهي مطمئنة أن معظم النسوة في بيوتهن الآن يعددن الطعام لأزواجهن وأطفالهن..
آه الأطفال.. أخذوهم آباءهم..... خافوا عليهم من أن تربيهم امرأة مثلي!!
مسحت الدمعة المتمردة التي قفزت فوق دفاعاتها وهي تقول لنفسها:
"لا ليس الآن... ليس هنا.... لتكوني قوية.. نحن الآن في الشارع. الشارع الذي لا يرحم!"
وضعت جرتها على رأسها لتحميها قليلاً من شمس الظهيرة الحارقة وهي تفكر:
لكم ستكون مياه البئر ساخنة الآن! لكن ماذا أفعل؟ لقد تعبت من نظرات النسوة. صحيح أن إحداهن لن تجرؤ أن توجه لي كلمة واحدة ، لكني أشعر في الداخل أني أقل منهن جميعاً.
في الليلة السابقة لم يرحمها النوم ويأتي إلا مع الفجر فقد قضت ليلتها كلها تتابع شريط حياتها الذي بدأ منذ ثلاثين سنة عندما وُلدت كأول ابنة غير مرغوب فيها لأحد التجار المسافرين دائماً.
لعل ذلك ما جعلني أبحث عن التجار المسافرين والرجال اللاهين وأحاول أن أجعلهم يمكثون معي! ..
عندما خطرت ببالها هذه الفكرة، ندت عن طرف ثغرها الذي تعلوه حَسَنة جذابة، ابتسامة سخرية سوداء.
أبي غائب.. أمي حزينة كئيبة القلب لا تكاد تبرح فراشها.... أنا الصبية ذات العشرة أعوام كنت أفعل كل شيء ــ أرعى المنزل واخوتي الصغار وأخرج أيضاً للعمل... لكم كنت أتمنى أن تحتضني أمي، ولكنها كانت إما نائمة، أو تبكي أو إذا استيقظت، تشكي لي همومها وآلامها وشكوكها في خيانة أبي في البلاد التي يذهب إليها. كنت أواسيها وأخفف عنها ثم "أضعها في سريرها" وأذهب أنا إلى "شغل البيت". لقد كنت أنا، الطفلة الصغيرة، أُماً للجميع!!
لكَم كنت أشتاق لحضن أمي أو أبي، أو أي حضن... أي لمسة حنان! لكَم كنت أتوق لأن أتكلم فيسمعني أحد! لكَم كنت أشتاق لأن أبكي فتأخذني أمي في حضنها! لكَم كنت أتمنى لأن أحصل على الاهتمام و"الدلع" الذي كان صديقاتي يحصلن عليه من آبائهن وأمهاتهن!
عندما جائتني "العادة الشهرية" هَرعتُ إلى أمي خائفة: "ما هذه الدماء التي تتدفق مني يا أمي؟ هل سأموت! " فأجابت بعينين متثاقلتين: " لا لن تموتي.." ثم ألقت لي ببعض قطع القماش القديم وهي تقول دون أن تتجشم حتى عناء النظر إليّ :" سوف يحدث هذا كل شهر. هذا طبيعي... لقد كبرت!" ثم عادت إلى فراشها.
لا أذكر حناناً أو اهتماماً سوى اهتمام ابن عمّي.....ابن عمي؟ ....... آه لماذا تأتي كل هذه الذكريات الآن؟ لقد دفنتها منذ سنوات...
كانت أمي ترسلني إلى بيت عمّي من وقت لآخر لأقترض بعض الطعام... بعض القمح لنطحنه أو قليل من الزيت.. فقد كانت دائماً نقودنا تنفذ قبل أن يعود أبي من سفره الطويل. لكم كنت أشعر بالخزي! لكن صرخات اخوتي الصغار الجائعة كانت سياطاً تلهب ظهري وتدفعني إلى هناك! لكن بعد قليل، أصبحت أحب الذهاب، بل كنت أنا الذي اختلق الأسباب للذهاب.
....... ما الذي يجعلني أتذكر هذه الأشياء الآن؟
حاولت أن تنفض الذكريات عن رأسها المتعب وتواصل مسيرها للبئر، لكن سرعان ما عادت الذكريات متدفقة وكأنها مجموعة ذباب جائعة في بداية الربيع وقد عثرت على طبقاً من العسل!
بالطبع أثارت ذكرى ابن العم في قلبها مشاعر مختلطة من الشجن والخزي معاً.
كان ابن عمي هو الإنسان الوحيد الذي لمس جسدي في ذلك الوقت. لم تكن لمساته هي بالتحديد ما أريد، لكنها كانت لمسات على أيّ حال. بالطبع سرعان ما تطورت لمسات الحنان إلى ما هو غير ذلك وشيئاً فشيئاً أصبحت لدي "علاقة جنسية كاملة" بابن عمّي وأنا في سن العاشرة! كانت هذه هي النهاية الرسمية لطفولتي. أصبحت "امرأة" في سن العاشرة.
الحقيقة لم أكن أشعر أن هناك شيئاً ما خطأ، فقد كان يعطيني ما أريد وأعطيه أنا ما يريد. كان يعطيني بعض الحنان الذي كان يمدّني بالقوة لأكمل حياتي الصعبة، وأنا أعطيه ما يجعله يطفئ نار الذكورة المتأججة في جسده حديث البلوغ. لا أستطيع أن أنكر أنني أيضاً شعرت ببعض اللذة وتعلقت بها بل وأعتمدت عليها تماماً وكأنها صديقي الوحيد في هذه الحياة التي ليس فيها إلا المسؤوليات.
هكذا مبكراً في حياتي تعلمت أنه لا حنان بدون ثمن؟ الرجال لا يعطون الحب إلا في مقابل الجنس، وعليّ أن "أدفع". لقد قبلت هذه الحقيقة كإحدى حقائق الحياة التي لا تُناقَش. وهكذا دفعت.. ودفعت. لكنهم كانوا دائماً يأخذون ما يريدون ثم يمضون في طريقهم طال الوقت أم قصر. حتى الزواج لم يمنعهم من الرحيل. أخذوا الأطفال وتركوني أنوح وأبكي وليس من يمسح دموعي إلا تتابع الأيام الرتيبة غير المبالية.
من يصدق أن هذه الدورة تكررت خمس مرات؟! ربما اختلفت السيناريوهات قليلاً.. لكنها نفس النهاية الحزينة كل مرّة. وفي كل مرة كنت أظن أن الحبيب الجديد سيكون مختلفاً وسيحترم الزواج والأسرة ... ما أغباني!
معه حق أليفاز.. ماذا أفادني الزواج؟ ربما، كما يقول، أن سبب بقاءه معي حتى الآن هو أننا لم نتزوج. ربما الرجال لا يحبون الالتزام. ولكنّي واثقة أن أليفاز أيضاً إذا ملّ مني سوف يرحل، بل إذا تغير مسار قافلته فلا يعود يمر بسوخار، سوف ينسى حتى أنه عرف امرأة من السامرة. أعرف تماماً أنه كاذب وكل ما يريده هو الجنس. ولكن ماذا أفعل؟ لا أستطيع أن أعيش وحدي!
يا لشقاوتي! فأنا كمن يشرب ماءً مالحاً. ومع كل شربة، يُمَنِّي نفسه بالارتواء، ثم لا يزيده الشرب إلا عطشاً!
لم تفق من أفكارها إلا عندما وصلت للبئر. أنزلت الجرة وهمّت بأن تدلّيها إلى البئر. وقبل أن تصل بها إلى مستوى الماء، سمعت خلفها صوتاً عميقاً هادئاً:
- اعطيني لأشرب.
التفتت لتجد رجلاً في الثلاثينات من عمره، جميل المظهر تشي نظراته بحنان ممزوج بالثقة الشديدة بالنفس. كما تدل ثيابه ولهجته أنه يهوديّ.
رجل يهودي هنا عند البئر يتحدث إليّ دون سابق معرفة، ويطلب مني أن أعطيه ليشرب! ما هذا؟! هل هذه هلوسة بسبب عدم النوم؟
بسرعة حاولت أن تداري ارتباكها بكلمات بدأت متعثرة، ثم تدريجياً استعادت قوتها و جرأتها المعتادة في الحديث، ولم تنس أن تضيف للكلمات بعض نظرات الإغراء المثيرة التي أصبحت تخرج منها بطريقة عفوية معتادة وكأنها برنامجاً يعمل تلقائياً:
- كيف تطلب مني لتشرب وأنت رجل يهوديّ وأنا امرأة سامرية؟!
بادرها بعبارة جعلتها تشعر أكثر فأكثر أنها ليست أمام رجل عاديّ.
- لو كنت تعلمين عطية الله، ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب، لطلبت أنت مِنه فأعطاك ماءً حياً.
من هذا الرجل؟ هل يريد مني ماءً ؟أم يريد أن يعطيني ماء؟ أم فقط يحاول أن يتجاذب أطراف الحديث معي؟ لا أظن أنه يريد ما يريده الآخرون. ثم.. الله؟ عطية الله؟ ... أنا لا أحب الكلام عن الله! ولكن مالي أشعر أن وقع كلمة "الله" على لسان هذا الرجل بالذات يأتي مختلفاً؟ ...عطية الله؟ هل الله يعطيني أنا؟ وماذا أعطيته في المقابل؟ ثم ما علاقة الله وعطية الله بهذا الرجل؟ وما له يتكلم بهذه الثقة: "لو كنت تعلمين من هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب!"... من تكون؟! ثم ما هو الماء الحيّ هذا؟
تذكرت فجأة أنها منذ لحظات كانت تفكر في نفسها أنها مثل الذي يشرب ماءً مالحاً..
ألعل هذا الرجل سمع الفكرة التي دارت بذهني من لحظات؟ أم أن عطشي وجفافي أصبحا واضحين لهذه الدرجة؟
منذ أول وهلة كانت قد لاحظت أنه ليس كباقي الرجال. يكفي أنه ينظر إلى عيناها مستقيماً ولا تجول عيناه بجسدها كما يفعل أغلب الرجال. ثم أن نظراته بها شيء ما ينفذ إلى القلب، ليس القلب الذي أحببت به الخمسة السابقين ولا أليفاز الحاليّ وإنما إلى قلب القلب!
لم تدر لماذا فجأة شعرت أنها أمامه نفس الطفلة الصغيرة ذات الأعوام العشرة وكأن السنوات العشرين التي مرت بها قد لملمت ثيابها وزيجاتها وأطفالها ووقفت جانباً تراقب هذا اللقاء.
إنه بالطبع لا يتكلم عن الماء الذي في هذا البئر، ولا في أي بئر. شيء ما في أعماقها أدرك أن هذا الرجل وصل إلى عطشها الحقيقي الذي حاولت طوال تلك السنوات العشرين أن ترويه. لكنها لم ترد أن تصدق. سيطر الخوف المشوب بالفرح والترقب على كل كيانها. حاولت أن تهرب من هذه المواجهة، في الوقت الذي كانت تشعر فيه بكل كيانها يندفع نحو ذلك "الماء" الذي يشير إليه دون أن تعرف ما هو وكيف يمكن لهذا الرجل أن يعطيها إياه وما علاقة هذا بالله؟!
أجابت وكأنها لا تفهم ماذا يقصد، لكي تعطي نفسها فرصة لتستجمع نفسها:
- يا سيد، لا دلو لك والبئر عميقة. فمن أين لك الماء الحيّ؟ ألعلك أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا البئر، وشرب منها هو وبنوه ومواشيه؟".
فهم يسوع أنها تراوغ فتكلم بصراحة أكثر:
- كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً. ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد، بل الماء الذي أعطيه أنا يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية.
قضت هذه الكلمات على كل محاولاتها للفهم، فبرغم ذكائها الفطري الحادّ، نجحت كلمات يسوع في تعطيل كل برامج عقلها تماماً. لكن قلبها كان يشعر براحة غريبة. شعرت فجأة بالعجز وفقدان السيطرة على كل كيانها. هذا الشعور دائماً ما يجعلها ترتعب رعباً شديداً، فهي لم تفقد السيطرة للحظة على عقلها أو مشاعرها أو حتى جسدها طوال سنوات عمرها الثلاثين. حتى أثناء ممارسة الجنس، تعودت أن تكون مسيطرة تماماً على كل ردود أفعالها. في كل العلاقات السابقة كانت تعد نفسها للفراق منذ بداية العلاقة حتى لا تتألم. فقدان السيطرة للحظة واحدة بالنسبة لها هو الموت المحقق! لكن هذه المرة، شيء ما جعلها تتصالح مع شعورها بالعجز والاحتياج؟ أسئلة كثيرة تزاحمت في عقلها؟
ما هو "ماء الحياة" هذا؟ ومن هذا الإنسان ليقول هكذا بجسارة أنه يستطيع أن يعطي ماء من يشربه لا يعطش إلى الأبد؟ ولماذا أشعر أنه صادق؟ لا ليست كلماته.. إنها عيناه.. فيهما حُبّ وقبول لم أرهما من قبل. عقلي لا يفهم معنى القبول، لكن شيء ما بداخلي يبدو وكأنه يفهم هذا الذي لا يفهمه عقلي. أشعر أن كياناً ما يرتوي بداخلي كلما نظرت إلى عينيه. ليست فيهما نظرة الرجال المتعالية على النساء، ليس فيهما حب الرجال أو شهوتهم، ليس فيهما احتقار اليهود لنا نحن السامريين. ليس فيهما كل ما توقعت أن أجده. فيهما شيئ غريب! هذا فقط هو ما يجعلني أميل لتصديق ما يقوله هذا الرجل من كلمات تبدو كعين الجنون! لولا أن نظرات عينيه تقولان أنه أصدق إنسان في الوجود لاعتبرت ما يقوله هذيان مجذوب من مجاذيب الهيكل!
مهما كان هذا الماء، فأنا أريده بأي ثمن. أنا أريد أي شيء يقول عليه هذا الرجل. شيء ما بداخلي يصدّقه ويريد أن يطلب منه هذا الماء، لكن شيئاً ما آخر خائف ومتردد.
قالت وكأنها تحاول أن تمنع طفلة بداخلها تريد أن تهرع إليه وترتمي في أحضانه:
- يا سيد... اعطني هذا الماء
ثم أضافت لكي تغطي الكلام مرة أخرى
- لكي لا أعطش ولا آتي إلى هنا لأستقي!
- اذهبي وادعي زوجك وتعالي إلى ههنا.
آه..... يبدو أن هذا الرجل يعرف كل شيء! إن ما شعره قلبي من البداية كان صحيحاً. هذا الرجل بالفعل ليس رجلاً عادّياً. أشعر كأن نظراته ترى حياتي كلها منذ بدايتها حتى نهايتها.
- ليس لي زوج!
- حسناً قلت ليس لي زوج لأنه كان لك خمسة أزواج والذي لك الآن ليس هو زوجك. هذا قلت بالصدق.
شعرت وكأن قلبها يغوص حتى قدميها. انهارت كل دفاعاتها في هذه اللحظة.. وشعرت بعجر وضعف لم تشعر به حتى عند ولادتها. حاولت أن تتكلم. لم تخرج الكلمات. ثم انسابت بعض الكلمات منها دون أي وعي.
- يا سيد أرى أنك نبيّ!
- ماهذا الذي قُلتِ؟!
- لقد اعترفت بالحقيقة. ما يقوله هذا الرجل هو الحقيقة!
- وكيف شَعُرتِ بالأمان هكذا لتعترفي بالحقيقة؟
- أنا أشعر معه بالأمان.
- كيف؟ ألم أعلمك ألا تشعري بالأمان مع أي إنسان؟
- لا أدري. ولكن هذا الرجل ليس كجميعهم؟
- من أدراكِ يا غبية؟
- لا أدري. هكذا شعرت، فهكذا قلت!
- كم مرة علّمتك ألا تقولي ما تشعرين به ، بل عكسه تماماً!
- لم أستطع!
دار هذا الحوار بينها وبين طفلة داخلها!
ثم استجمعت أطراف شجاعتها المعهودة واستدعت بسرعة أرشيفها من المعلومات الدينية، فهذا الرجل غالباً لا تنفع معه الحيل الأنثوية المعتادة. ثم قالت وهي تحاول أن تبتعد بأقصى سرعة عن
تلك النقطة التي وصل إليها الحديث.
- آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون أن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه.
- يا امرأة صدقيني أنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب. أنتم تسجدون لما لستم تعلمون. أما نحن فنسجد لما نعلم. لأن الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق. لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له. الله روح. والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا.
صدقيني؟! ...... لم يقل لي أحد من قبل هذه الكلمة الحميمة.. ثم من هو هذا الأب؟ السجود هو لله......هل الله أب؟ هذا كلام غريب! ما معنى الأبوة؟... ثم ما معنى أن الله روح؟ وهل يمكن السجود لله في أي مكان؟!! حقاً أنا أمام رجل مختلف يقول كلاماً مختلفاً!
هذا الكلام الذي يقوله يشبه نبوات الكتاب عن الملكوت الآتي. كلام ربما لن يتحقق إلا بعد أن يأتي المسيا نفسه!......نحن لا نحب اليهود.. ولاهم يحبوننا.. لكننا جميعنا ننتظر المسيا في نهاية الزمان! نحن كلنا نعرف أصله ومصدره ونعرف أنه سينصفنا جميعاً، اليهود والسامريين والجميع. لكن متى يأتي؟
ألعله يأتي أساساً؟!!
- أنا أعلم أنا مسيا الذي يقال له المسيح يأتي. فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء.
- أنا الذي أكلمك هو.
دارت الدنيا بها... أمسكت بحافة البئر لكي لا تهوي على الأرض.
أنا أتكلم مع رجل قال لي لتوه أنه المسيا!!!!
لو لم يكن قد قال ما قاله، ولو لم تكن عيناه تشعان هذا الصدق العجيب، لضحكت من أعماق قلبي!
المسيا جاء!!
وجاء لي أنا!!!
المسيا يأتي للهيكل بمجد وقوة.. لا يمكن أن يكون هذا هو المسيا!
لكن لا يمكن أيضاً أن يكون هذا إنساناً عادياً. هذا إما مجنون، أو هو المسيا!
لكن كيف يكون هذا مجنوناً؟!
المسيا يظهر على سحاب السماء بمجد في نهاية الزمان فيخضع الأرض تحت قدميه! المسيا لا يظهر لامرأة متعددة الأزواج على بئر بسوخار السامرة!
عقلي يكاد ينفجر!
إن كان هو المسيا، فيجب أن يعرف الجميع. لا يمكن أن أحتفظ بهذا الخبر لنفسي.
إنه هو المسيا!
لم تدر المرأة إلا وقد تركت جرتها معه عند البئر، وهرعت للمدينة التي كانت تهرب منها وهي تردد عبارة واحدة فقط: " هلموا انظروا انساناً قال لي كل ما فعلت. ألعل هذا هو المسيح؟!"
وقعت كل دفاعاتها وهي تجري
لم تعد تبذل أي جهد في مواجهة الناس
لم تعد تحتاج لقناع القوة، أو حيل التفوق
شعرت أن شيئاً ما أكبر منها وأكبر من الحياة نفسها يحتويها
شعرت بقوة وجرأة لم تشعر بهما من قبل
قال لي كل ما فعلت!
لقد صار عاري الذي كنت أخفيه، برهان صدق بشارتي وحجتي أنني، أنا، قد وجدت المسيا الذي يفتش عنه الجميع!
أنا السامرية المزواجة الزانية التي تعيش في الحرام ظهر لي من تنتظره كل الأجيال
يا لها من كرامة!
يا له من رد لاعتباري لم أكن أتخيله!
وعندما سمع أهل المدينة هذه المرأة بالذات تقول هذا، هرعوا وراءها وأتوا إليه، فهي ليست امرأة عادّية. الكل يعرفها ويعرف أنها لا تنسى نفسها هكذا إلا إذا كان ما تقوله مهماً.
أخذوا يتكلمون معه ويكلمهم وهي واقفة وسط الصفوف تنظر إلى أهل قريتها وتنظر إلى يسوع وابتسامة غريبة تعلو وجهها، وجزء من عقلها يُعدّ ما ستقوله لأليفاز لإنهاء العلاقة! 
 
google-site-verification: google582808c9311acaa3.html