الأحد، ٨ أغسطس ٢٠١٠

الكلمة



21
في الطريق إلى الهيكل تمشى يسوع في شوارع أورشليم القدس. كان موسم الفصح على الأبواب والناس يملأون الشوارع والطرقات والمتاجر بالمئات ليحصلوا على تموين الفصح من مأكل ومشرب بكميات كبيرة وبصورة لا تحدث إلا في هذا العيد، حيث يتبع الفصح سبعة أيام عطلة لا يقوم فيها أحد من اليهود بالعمل أو البيع والشراء ويتفرغ الجميع، كما هو مفترض، للعبادة والاحتفال بذكرى خروجهم من مصر.
لم يكن صيته قد ذاع بعد في العاصمة، هذا أتاح ليسوع  أن يتمشى بين الناس دون أن يلاحظوا، ويتأملهم وينظر في عيونهم ويحييهم إذا جاء شخص في مقابله. كان يحيي الرجال والنساء على حد سواء. أما الرجال فكان عدد قليل منهم يجيب بابتسامة والأكثرية يغمغمون وكأن برنامجاً تلقائياً يعمل لرد التحية بأحسن منها، أما تعبيرات العين وملامح الوجه فلا يعبران عن أي تحية حسنة أو سيئة. وأما النساء فلم يكنّ يجبن تحيته مطلقاً وبعضهن كن ينظرن إليه شذراً  من فتحات نقابهن وكأنه انتهك شرفهن، فالرجال في اليهودية لا يكلمون النساء فيما عدا نساءهم أو محارمهم. والنساء بالطبع لا يكلمن الرجال، وإذا تكلمت امرأة مع رجل أو ابتسمت له فهذا معناه على أنها امرأة سهلة المنال، حيث أن أي علاقة بين رجل وامرأة في مفهوم المجتمع اليهودي، يجب أن تقع أولاً في خانة الجنس قبل نقلها إلى أية خانة أخرى وعادة ما لا يحدث هذا "النقل" أو يحدث بصعوبة.

وصل يسوع إلى الهيكل واجتاز بصعوبة وسط الزحام الشديد، وفيما هو يجتاز وسط الناس شعر أن هناك شخصاً ما ينبغي مقابلته فبدأ في التحرك بشكل وسط الزحام  وكأن قوة غير منظورة تقوده حتى وجده. إنه عم يوسف.  تهللت أسارير الرجل عندما رأى يسوع.
ـ عم يوسف. جيد أن أراك هنا في الهيكل
ـ نعم سيدي. جئت أقدم محرقة وأوفي نذوري فقد نذرت أنه إذا شفاني الله فسوف أتبرع للفقراء بكل ما جمعته من الشحاذة طوال السنوات الماضية وأبحث عن عمل.
ـ ذكرتني بالمزمور القائل: أدخل إلى بيتك بمحرقات، أوفيك نذوري التي نطقت بها شفتاي وتكلم بها فمي في ضيقي. عم يوسف. هل تعرف بقية المزمور؟
ـ سيدي. أنا لا أحفظ المزمور فأنا رجل بسيط كما تعرف. ماذا يقول المزمور؟
ـ يقول: هلم اسمعوا فأخبركم يا كل الخائفين الله بما صنع لنفسي. صرخت إليه بفمي وتبجيل على لساني.
ـ عظيم هو الرب
ـ ويضيف المزمور قائلاً: " إن راعيت اثماً في قلبي لا يستمع لي الرب. لكن قد سمع الله. أصغ إلى صوت صلاتي. مبارك الله الذي لم يبعد صلاتي ولا رحمته عني. لقد سمع لك الله يا عم يوسف وشفاك فلا تراعي اثماً في قلبك مرة أخرى لئلا يكون لك أشر.
ـ هل تقصد أن مرضي هذا كان بسبب خطية؟
ـ ليس بالضرورة ولكن الاثم في القلب أشر من مرض الجسد.
مضى عم يوسف لا ليفي بنذوره فقط ولكن لكي يخبر اليهود في الهيكل بما صنع الله لنفسه، وكيف أبرأه يسوع اليوم ولما سمع الكهنة والقادة الدينيون أن يسوع قد أبرأه في السبت استشاطوا غيظاً وقالوا أين يسوع هذا نريد أن نقابله.
جاء عم يوسف ومعه مجموعة من كهنة الهيكل إلى حيث كان يسوع واقفاً يتكلم مع بعض الآجانب الآتين للعيد من الأمم.
ـ هل أنت المدعو يسوع الناصري؟
ـ نعم أنا
ـ هذا الرجل يقول أنك شفيته اليوم
ـ نعم
ـ أو لا تعلم أن الإنسان لا ينبغي أن يعمل في السبت؟!
ـ أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل
ـ أبوك؟ من أبوك؟
ـ الحق الحق أقول لكم لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل. لأنه مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك، لأن الآب يحب الابن ويريه جميع ما هو يعمله.
ـ ما هذا الذي تقول؟ الذي يعمل دائماً هو الله!
ـ نعم و هو قد اختار أن يعمل هنا فيما بينكم أعماله لكي تؤمنوا أنه حال فيّ وأنا فيه
ـ استغفر الله العظيم. أنت كافر مجدف تستحق الموت، ليس فقط لأنك كسرت السبت بل لأنك تعادل نفسك بالله.
ـ الآب يحب الابن ويريه جميع ما هو يعمله، وسيريه أعمالاً أعظم من هذه لتتعجبوا أنتم. لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويحيي، كذلك الابن أيضاً يُحيي من يشاء.
ثارت مجموعة من الكهنة الشباب وتناولوا حجارة ليرجموه وهم يصيحون: كافر... كافر لكن ظهر من بينهم كاهن أكبر قليلاً حاول تهدئتهم وبدأ يتكلم مع يسوع.
ـ سيدي.. فهمنا ماذا تقصد؟
ـ أعمالاً كثيرة أريتم من عند أبي بسبب أي عمل منها ترجمونني؟
ـفقال واحد من شباب الكهنة
ـ  لسنا نرجمك لأجل عمل حسن، بل لأجل تجديف فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً.
ـ إليس مكتوباً في ناموسكم: "أنا قلت أنكم آلهة." إن قال "آلهة" لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله، فكم بالحري "كلمة الله نفسه" أتقولون لكلمة الله أنه يجدف لأنه قال أنه ابن الله؟
لا أفهم. ما الكلمة وما الابن؟
ـ الكلمة هو الابن. فكما أن الابن يعبر عن الآب، الكلمة تعبر عن قائلها.
ـ نحن نفهم ما يقصده الكتاب عندما يتكلم عن أن كل البشر آلهة، فقد استودع الله نسمه من فمه في كل إنسان ، ونفهم أبوة الله لنا، فكل إنسان هو ابن الله بالخلق. لكنك تخاطب الله كما يخاطب الطفل أباه وكأن لك علاقة بنوة خاصة بالله.
ـ نعم. أنا لم أولد مثلكم من أب، وليست لدي فقط نسمة من فم الله، وليست لدي كلمة "من الله" لقد حل الله بالكامل فيّ. حلت كلمته وسكن عقله فيّ بالتمام.
ـ هل ممكن لكافر مثل هذا أن يعيش؟      صاح أحد الكهنة
أضاف يسوع متجاهلاً عبارة الكاهن
ـ أنا لا أتكلم من نفسي. كلامي ليس كلام إنسان ولكن كلمة الله الحال فيّ هو الذي يتكلم. حلول الله الكامل في لا يثبته فقط ميلادي بدون أب ولكن تثبته أعمالي الواضحة. إن لم تؤمنوا أو تفهموا ما أقول فأنا أعذركم، لكن الأعمال التي أعملها فيما بينكم تقول أن الآب فيّ وأنا فيه.
ـ أية أعمال؟
ـ كما أن الآب يقيم الأموات ويحيي، كذلك الابن أيضاً يحيي من يشاء؟ كيف لكافر مجدف أن يقيم الموتى؟ لا تستخدموا عقولكم! الله يصنع الآن  شيئاً جديداً أعظم من عقولكم.
 ـ لا يمكن أن نؤمن بهذا التخريف
ـ كما أعطاني الله أن أعمل أعماله، أعطاني أيضاً أن أغفر وأن أدين. وأنا أطلب من الله أن يغفر لك لأنك لا تعلم ماذا تفعل وماذا تقول. أنت يا صديقي تحكم على الله بعقلك ظاناً أنه لا يمكن أن يفعل إلا ما حدث من قبل وما تستوعبه أنت وكأنه غير مسموح له أن يصنع أمراً جديداً أو يخرج عن "النص" الذي وضعته له.
أطرق الكاهن الشاب برأسه ولم يتكلم ثم أخذ باقي مجموعة الكهنة الشباب وكما يبدو كان له تاثير عليهم فانصرفوا.
مضى يسوع يكمل كلامه لجموع الناس الموجودين
ـ الحق الحق أقول لكم أن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية. سوف يولد من جديد لحياة جديدة لا تفنى، ولن يأتي لدينونة وحكم في اليوم الأخير بل قد انتقل من الموت إلى الحياة. الحق أقول لكم أنه تأتي ساعة وهي الآن، حين يسمع الأموات روحياً صوت ابن الله والسامعون يحيون.
 الآب هو الله وله حياة  أزلية في ذاته وهو غير مخلوق
والابن كلمته الأزلي وعقله الأبدي غير المخلوق فلم يكن الله غير متكلم أو غير عاقل أبداً.
هذا "الكلمة" حلّ  بالتمام فيّ أنا ابن الإنسان. من يقبلني ويكرمي ويؤمن بي فهو يؤمن بالله ومن يحتقرني ولا يصدقني فهو لا يصدق الله.
فخرج من الجمع شاب، واضح أنه ذكيّ وسأل يسوع
ـ وكيف تطلب منا أن نؤمن بهذا الشيء العجيب؟ و كيف يحاسبنا الله على عدم الإيمان بشيء عجيب كهذا؟ أليس هذا ظلماً؟
ـ يعجبني فكرك ومنطقك، ما اسمك؟
ـ اسمي إيليا
ـ صديقي إيليا، إذا لم يصدق عقلك هذا  الأمر الصعب ولم يقتنع فهو معذور. أنا إنسان وأعلم أن عقل الإنسان قاصر أن يفهم هذه الأمور اللاهوتية الفائقة. لذلك أنا لا أدين وأحكم على أساس فهم هذه الأمور.
ـ على أي أساس تحكم إذاً؟
ـ هناك منطق آخر بسيط يستطيع كل إنسان أن يراه.
ـ ما هو؟
ـ انظر يا صديقي للنتيجة، لنوعية الحياة التي أحياها، ويحياها تلاميذي وقارن بينها وبين حياة من لا يؤمنون بي. فإن كنت أنا صادق وبلا خطية ينبغي أن تصدقني وإن كنت أعطي حياة جسدية للموتى جسدياً وحياة روحية مختلفة للموتى روحياً ينبغي أن تصدقني. إن كانت الشجرة تحمل برتقالاً يجب أن تصدقها إن قالت أنها شجرة برتقال. بالطبع أنت لا تعرف السر المعجزي الذي يحول طين الأرض وماءه واشعة الشمس إلى برتقال حلوّ ولن تستطيع أن تعرف وأنا لا أطالبك أن تفهم هذا.  لكنك ببساطة عندما ترى برتقال تعرف أن هذه الشجرة صادقة. على هذا الأساس أدين وأحكم.
ـ بالطبع أنت مختلف و ما تفعله مختلف وتلاميذك مختلفون، لكنني لا أستطيع أن أقبل هذا الذي تقول!
ـ إذاً أنت تؤمن بعقلك وليس بالله. وسوف لن يعاقبك الله إلا بأن يجعلك تعيش للأبد في حدود القوة التي يمنحها هذا العقل ولن تعيش القوة التي يمنحنا الله. لن تدخل مملكة الله!

إلى اللقاء في حلقة قادمة من .. "مملكة الله" 

ليست هناك تعليقات:

 
google-site-verification: google582808c9311acaa3.html