الاثنين، ١٦ أغسطس ٢٠١٠



3
بالرغم من أن يسوع وصل إلى سن الثلاثين إلا أن القصص القديمة عن نسبه لا تزال تُروى  بين الحين والآخر. فالجميع يعلم أن مريم وُجِدت حبلى قبل زواجها من يوسف وأن يوسف هو الرجل الطيب الذي ستر عرضها وصدق روايتها عن الحلم الذي رأت فيه ملاكاً يبشرها بأنها سوف تحبل بعمل إلهي معجزي وأن وليدها لن يكون ابناً لبشر بل سيُدعى "ابن الله"، وكيف أن بعد هذا الحلم الغر يب مباشرة توقفت الدورة الشهرية بالفعل وبدأت تشعر بالحمل.  ومن القصص المنتشرة أيضاً أن يوسف هو الآخر رأى رؤيا تطمئنه لرواية زوجته. لم يكن صعباً على يوسف أن يُصدق مريم التي كان مشهوداً لها بالتقوى والصلاة في قريتها الناصرة بالجليل. إلا أن هناك قصص أخرى انتشرت تتهمها بالزنى مع جندي روماني يُدعى بانثيرا.  شب يسوع وسط هذه الشائعات و عندما كان طفلاً، كان كثيراً ما يعود لأمه من كُتّاب الهيكل باكياً بعد أن اتهمه أحد الأطفال أنه ابن زنا. وفي كل مرة كان يحدث أمراً كهذا، كانت مريم تصلي وكان إيمانها يساعدها على الاستمرار، وكانت تحكي ليسوع قصة الملاك.  ويسوع نفسه كان طفلاً غريباً فقد كان يفهم قصة مريم ويصدقها، بل كثيراً ما يرى رؤى غريبة في المنام فيها يرى فيها نوراً شديداً وصوتاً يقول له: "انت ابني الوحيد!" وكان يقص هذه الرؤى على أمه التي كانت تحفظها في قلبها. نفس هذه الصوت سمعه يسوع عندما خرج من الماء عندما ذهب ليعتمد من يوحنا المعمدان في بيت عنيا على نهر الأردن. ولكن هذه المرة سمع الصوت وسط النهار وهو في كامل اليقظة مما جعله يشعر بحيرة ممزوجة بفرح غريب. بعد هذه الحادثة بالتحديد، شعر يسوع أنه يجب أن يترك عمله في النجارة ويتفرغ للخدمة الروحية، لكنه قرر أن يقضي في صحراء الأردن فترة صوم وصلاة طويلة قبل بدء الخدمة.
بعد المعمودية وبعدما عاد يسوع من صحراء الأردن إلى بيت عنيا بدء يفكر في تكوين فريق من التلاميذ والعودة للجليل. وذات مرة كان يوحنا المعمدان واقفاً مع أول تلاميذه أندراوس ومعهما بنيامين القمرانيّ الذي بعد أن اعتمد من يوحنا، كان يجيء بين الوقت والآخر ليقضي معه ومع تلاميذه بضعة أيام يعود بعدها إلى المستعمرة. فقال يوحنا بعد أن نظر إلى يسوع ثم أطرق معلقاً عينيه على الأفق وبدا مستغرقاً في تأمل يفصله عن العالم كله....
ـ هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم!
ـ ما الذي يجعلك تقول هذا أيها المعلم، أنت لم تره إلا من مدة قصيرة.
ـ لا أعلم.. ولكنني عندما كنت أعمده رأيت شيئاً غريباً. جاءت حمامة بيضاء ووقفت على كتفه بعد أن خرج من الماء وشعرت كما لو كانت هذه الحمامة رمزاً لروح الله وشعرت كما لو كان الله يقول أنه ابنه الوحيد وأن علينا جميعاً أن نسمع له..  ثم ، باعتباري من العائلة، أعرف قصة ميلاده.
ـ قصة ميلاده؟
ـ نعم. لم يولد يسوع بطريقة عادية مثلنا. لقد ولد مباشرة من الله.  
ـ مباشرة من الله. ما معنى هذا؟ أنا أعلم أن أباه نجّار من الناصرة.
ـ هذا زوج أمه وهو قد ربّاه كأبيه تماماً، لكنه مولود ولادة روحية من الله مباشرة. تستطيع أن تقول أنه "ابن الله".
ـ ابن الله؟ أستغفر الله العظيم. وهل الله يلد ويولد؟ هل الله إنسان مثلنا فيلد ويولد؟
ـ يلد ويولد؟ بالطبع لا!  لك معي كل هذا الزمان يا أندراوس ومازلت تفكر بهذه الطريقة الجسدية التي يفكر بها الكهنة في أورشليم!
بالرغم من عدم قبول أندراوس لما يقوله يوحنا إلا أنه شعر بفضول شديد أن يتعرف على يسوع فمشى هو وبنيامين وراءه، وعندما لاحظ يسوع التفت وقال.
ـ ماذا تطلبان؟
ـ أين تمكث؟
ـ تعاليا وانظرا
فذهبا معه إلى الخيمة التي كان يسكن فيها وكانت الساعة الرابعة بعد الظهر. وظل الثلاثة يسوع وأندراوس وبنيامين معاً وسهروا لوقت متأخر من الليل حيث كان يسوع يتحدث إليهما ويعلمهما عن مملكة الله ويجيب كل تساؤلاتهما. حتى أن أندراوس قال في نفسه. أن لم يكن هذا "اليسوع" هو المسيا فما عسا يكون المسيا؟ ثم طرد أندراوس هذه الأفكار الغريبة من عقله واستغفر الله.
في الصباح هرع أندراوس إلى الخان حيث كان يبيت مع سمعان أخاه و بمجرد أن رأه صرخ سمعان في وجهه.
ـ أين كنت أيها الفتى الأخرق تتركني وتبات في مكان آخر دون أن تخبرني! لقد كدت أموت بالأمس من القلق وبحثت عنك في كل مكان وهم بأن يمسك بتلابيبه ويضربه.
ـ مهلاً يا سمعان ..اسمع.. عندما أقول لك السبب سوف تعذرني. أترك رقبتي سوف أختنق!
ـ ماذا عندك؟
ـ وجدت شخصاً غريباً جداً اسمه يسوع قضينا معه أغلب النهار ومكثنا معه لوقت متأخر من ليل البارحة. صدقني يا سمعان إذا استمعت إلى هذا الإنسان لن تستطيع أن تمنع نفسك من أن تظن أنه..
ـ أنا ماذا؟
ـ أنه..أنه.. المسيا!
ـ لم يكفك ما فعلت وجئت لي سكراناً أيضاً ! وهم بأن يمسكه مرة أخرى.
ـ تعال معي وانظر.
ـ إلى أين؟
ـ سوف آخذك للمسيح
ـ مرة أخرى يقول لي المسيح!
في الطريق حكا أندراوس كل ما كان مع يسوع ويوحنا المعمدان وعن المعمودية والحمامة وقصة "ابن الله" وعندما وصلا إلى خيمة يسوع رآهما يسوع من بعيد فصاح:
ـ أنت سمعان بن يونا!
ـ ربّاه. كيف عرف اسمي. أقلت له عني؟
ـ أبداً لم أقل له شيئاً.
ـ أنت سمعان بن يونا وسوف أسميك الصخرة! نحن جيران من الجليل. أنا  يسوع من الناصرة. أندراوس قال لي أنكما من بيت صيدا. لا يفصل بيننا سوى ميلان ونصف تقريباً تعاليا امكثا معي هذه الليلة لنواصل حديثنا نحن الثلاثة عن مملكة الله. تعال معنا أنت أيضاً يا بنيامين.
ـ للأسف أنا مضطر للعودة إلى وادي قمران. رحلتي طويلة. الرب معكم!
في اليوم التالي بدأ يسوع يعد للعودة من بيت عنيا إلى بلده ناصرة الجليل ولكنه كان لا يزال يشعر أن هناك تلاميذ هنا يجب أن يدعوهم ليكونوا معه فمنذ عادة من فترة الصلاة والصوم بعد المعمودية وقلبه يبحث عن هؤلاء.
وبينما كان يتمشى على نهر الأردن صادف شاباً يمشي متأملاً وكأنه يصلّي. فاقترب يسوع منه.
ـ صباح الخير
ـ صباح النور. لا يبدو عليك أنك من هنا. أهلاً بك في محافظة الأردن
ـ نعم. أنا من الجليل
ـ واضح. ملابسك ولغتك. شرفت بلادنا
ـ حقا؟ هل من الممكن أن يكون شخصاً مثلي من ناصرة الجليل مصدر شرف؟
ـ ليس الإنسان بالمكان الذي يسكنه، المهم ما يسكن قلب الإنسان. 
ـ نعم يا فيلبس يا صديقي.
لمعت عينا الشاب واتّسعت
ـ كيف عرفت اسمي؟
ـ ليس الإنسان بما يعرفه، المهم أن يكون معروفاً من الله! .. قال يسوع هذا وهو يبتسم ابتسامة ماكرة مشيراً إلى عبارة فيلبس السابقة.
ـ واضح أنك لست شخصاً عادياً في الجليل
ـ نعم..أنا معلم
ـ معلم؟ في الجليل؟ هل يوجد معلمون في الجليل؟ وهل.. أعذرني.. هل تؤمن بالتوراة؟
فتح يسوع عيناه واسعاً.
ـ نعم! كيف أكون معلماً ولا أؤمن بالتوارة
ـ اعذرني. ولكن ما أعرفه أنكم في الجليل متحررون قليلاً وتؤمنون ببعض العقائد الوثنية بسبب سكنى الأممين بينكم.
ـ ليس الإنسان بمن يسكن معه، بل ما يسكن قلبه!
ضحك الشابين ضحكاً عالياً وبدا وكأنهما أصبحا أصدقاء منذ ذلك الوقت..وبعد أن خفتت الضحكات تدريجياً نظر يسوع إلى فيلبس في عينيه..
ـ  ألم تقرأ المكتوب في نبوة إشعياء أنه إن كان الزمان الأول أهان أرض زبولون ونفتالي، أرض الجليل، فإن الزمان الأخير يكرم طريق البح، عبر الأردن، جليل الأمم.
أكمل فيلبس النبوة...
الشَّعْبُ السَّالِكُ فِي الظُّلْمَةِ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا. الْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظِلال الْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ.
أضاف يسوع:
- لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ. لِنُمُوِّ رِيَاسَتِهِ، وَلِلسَّلاَمِ لاَ نِهَايَةَ عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ وَعَلَى مَمْلَكَتِهِ، لِيُثَبِّتَهَا وَيَعْضُدَهَا بِالْحَقِّ وَالْبِرِّ، مِنَ الآنَ إِلَى الأَبَدِ.
ـ نعم يا  معلم. متى يتحقق هذا وياتي الموعود به؟
ـ لقد تحقق يا فيلبس!
ـ ماذا تقول؟
ـ أنا هذا " الولد"
صمت فيلبس وكأن السماء أطبقت على صدره
ـ اتبعني!
حاول فيلبس أن يتكلم.. لم يستطع ومشا الاثنين معاً دون كلمة لكن كان قلبيهما ممتلئان بالكلام الذي لا يقال!
بعد عدّة دقائق حاول فيلبس أن يخرج بعض الكلمات من صدره فخرجت كلمات قليلة متعثرة
ـ هل تستطيع أن تنتظرني دقائق. سأذهب في مشوار قصير وأعود إليك. أرجوك انتظرني.
حاول فيلبس أن يمشي ثم تدريجياً بدأ يسرع من خطاه. ثم في النهاية استسلم لرغبته في الجري، فأطلق ساقيه للريح كما كان يفعل وهو طفل. وبينا كان يجري كان يعود تدريجياً للطفولة. في دقائق أصبح فيلبس صاحب الثمانية والعشرين عاماً طفلاً صغيراً وجد شيئاً مثيراً فهرع إلى نثنائيل أخيه ليخبره.
عندما وصل إلى نثنائيل وجده جالساً تحت شجرة تين يقرأ ويدرس التوراة والكتب
ـ لقد وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء، يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة.
ـ أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟
ـ تعال وانظر
مشى الأخوان وطوال الطريق كان فيلبس يحث نثنائيل على الاسراع بينما نثنائيل يمشي محاولاً الحفاظ على وقار الأخ الأكبر بينما نبضات قلبه تتسارع فهو يعرف كيف أن فيلبس لا يمكن أن يقول هذا الكلام إلا كان كان واثقاً مما يقول فهو مثله يبحث عن الحقيقة، ويدرس التوراة والأنبياء بكل تدقيق.
وعندما  أقبلا إلى يسوع قال يسوع:
ـ "هوذا اسرائيلي حق لا غش فيه"
ـ من أين تعرفني؟
ـ قبل أن دعاك فيلبس وأنت تحت التينة تقرأ في نبوة إشعياء، رأيتك.
ـ يا معلم. أنت ابن الله! انت ملك إسرائيل!
ـ هل آمنت لأني قلت لك: إني رأيتك تحت التينة؟ سوف ترى أعظم من هذا!

منذ أن عاد من بيت عنيا حيث كان تعمد على يد المعمدان، ظل يسوع هو يقضي أوقاتاً  طويلة في الصلاة لله وكان كل صباح يستيقظ والظلام باقي ويذهب إلى بحر الجليل ويصلي هناك. لقد أصبح يسوع يتواصل مع الله بوضوح كابن مع أبيه. هذه الومضات التي كانت تأتيه في الطفولة تحولت منذ المعمودية إلى حلول كامل لله فيه، لذلك تعود أن يتكلم عن الله كأبيه ببساطة من يتكلم عن أب من لحم ودم.  هذا كان يسبب له انتقادات كثيرة. فاليهود يتكلمون عن أبوة الله ولكن ليس بهذه الصورة الحميمة، يؤمنون أنهم يتكلمون مع الله في الصلاة ولكن ليس بهذه الأريحية التي كان يتكلم بها يسوع ويدعوه "آبا" ــ أي "بابا" باللغة الآرامية الدارجة التي لم يكن اليهود يستخدمونها أبداً للصلاة أو الكلام عن الله.
الله بالنسبة لليهود متعال جداً لا يمكن التباسط معه أو الكلام ببساطة عن محبته وأبوته،  فهو ليس كمثله شيء وحرام تشبيهه بالأب.  ويسوع أيضاً كان كيهوديّ يفهم ويدرك أن الله متعال ومتسام فوق كل تشبيه بشري،  لكنه كان أيضاً  يؤمن أن ذلك المتسامي المتعالي قد قرر بحريته الكاملة التنازل و التواصل الحميم مع البشر دون أن يفقد تعاليه وتساميه وأصبح يسوع،  منذ معموديته وتجربته في البرية، على يقين  أنه شخصياً هو محور هذا الاتصال وبؤرته.

وذات يوم كان يتمشى على بحر الجليل فأبصر عن بعد بعض الصيادين الذين اختاروا هذا الموعد الباكر ليفاجئوا السمك قبل أن يستيقظ.  وضع يسوع حافة  يده اليمنى فوق حاجبيه وهو يحاول أن يرى في مواجهة الشمس التي لم تزل منخفضة لتواجه من ينظر إلى الأفق.  دقق يسوع النظر لكي يتحقق من هويتهما فأدرك أنهما سمعان وأندراوس.  لم يكن يسوع  قد رآهما منذ رحلة بيت عنيا، ولكنه لم يكن يكف عن الصلاة والدعاء من أجلهما ومن أجل فيلبس ونثنائيل أيضاًز منذ لقاءهم وهو يدرك أن لله خطة عظيمة في حياتهم لكنه كان يعلم أنهم لم يكونوا  بعد مستعدين لاستقبال هذه الأمور وفهمها.
صاح يسوع
ـ  يا رفاق.. أنا يسوع كيف حالكم؟
ـ المعلم؟!
هرع سمعان وأندراوس يجدفان بكل قوتهما حتى وصلا إلى الشاطئ حيث كان يقف يسوع ثم نزلا واحتضن الثلاثة بعضهم البعض.
ـ لقد افتقدتكما يا رفاق منذ وقت بيت عنيا، كيف حالك يا .. بطرس!
أجاب سمعان وقد بدأ كلامه باسماً، بسبب تذكير يسوع له باسم "بطرس"  ثم تحول كلامه تدريجيا إلى الجِد.
ـ ونحن أيضاً أيها المعلم، لم نتوقف عن التفكير فيك وفيما قلته عن مملكة الله.  كنا دائماً نظن أن مملكة الله هي إقامة شرع الله وإصلاح الدنيا بالدين وما يستلزمه ذلك من تغيير للحكومات والممالك، لم نسمع من قبل ما قلته عن أن مملكة الله هي مُلك الله على القلوب.
قال أندراوس
ـ نعم يا سمعان هذا منطقي، فبدون حكم الله على القلوب لن يكون هناك تغيير. التغيير يبدأ دائماً من الداخل وليس من الخارج. لكن ما معنى أن يحكم الله القلب؟ كل من حولنا يفعلون ما يفعلون ويقولون أنهم يفعلون هذا لوجه الله، وأن الله يحبهم ويسكن في قلوبهم!  أين الحقيقة؟
ـ من ثمارهم تعرفونهم يا أندراوس. الثمار هي ما يخرج من الشجرة رغماً عنها. لا تستطيع شجرة التين أن تثمر شوكاً ولا تستطيع الأعشاب الشائكة أن تثمر تيناً مهما حاولت. لا يجتنون من الشوك عنباً ولا من الحسك تيناً.  تابع الإنسان.  تابع أقواله التي يقولها في لحظات الغضب حين يقع عنه قناعه. تابع الإنسان في حياته الشخصية وليس فقط في كلامه.  تابعه في علاقته بالجنس. تابعه في علاقته بالمال.  الجنس والمال يكشفان الإنسان. من يقول أن يحقق إرادة الله ولا يستطيع ضبط محبته للمال أو شهواته الجنسية فأغلب الظن كاذب أو مضلل.
ـ لكننا يا معلم نصارع مع رغباتنا الجنسية ونقاومها ونسقط فيها أحياناً، ونحن بأمانة أيضاً نحب الله ونريد أن نرى ممكلته تتحقق في قلوبنا وفي العالم من حولنا. هل ترانا كاذبون أو مُضللون.
ـ بالطبع لا، أنت يا سمعان تصارع رغبتك الجنسية ولا تستسلم لها. تقع فيها أحياناً،  لكنك تقوم وتواصل. لكن من أقصدهم هم الذين  يستسلمون لشهواتهم معطين لها شرعية باستخدام  تشريعات دينية أو حركات سياسية أو حقوقية كلها في النهاية تصب في تحقيق شهواتهم التي لا تنتهي. احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان، ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة!
 ـ مثل هيرودس الذي أحل لنفسه الزواج  من زوجة أخيه فيلبس و هو حيّ  مستخدماً السلطة والدين.
ـ ليس هيرودس فقط ولكن الكثيرين في الماضي والحاضر و سيكونون في المستقبل.  لكن كما قال المعمدان، سوف يأتي وقت حين يوضع الفأس على أصل الشجر وكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً ستقطع وتلقى في النار.
ـ  وقال أيضاً أنه يعمد بماء للتوبة لكن سيأتي بعده من سيعمد بالروح القدس ونار. وهذا الشخص هو أنت يا يسوع. لقد قال عنك أنك أنت حمل الله الذي سيرفع خطية العالم.

ـ هيا يا أندراوس وأنت يا سمعان. دعونا نحتسي بعض القهوة ونواصل حديثنا فأنا قد اشتقت كثيراً للحديث معكما.
وصل يسوع وسمعان وأندراوس إلى قهوة صغيرة على ضفاف بحيرة الجليل، كان الصيادون يجلسون فيها للراحة واحتساء القهوة والشاي وبعضهم يقوم بإصلاح الشباك. و بعدما جلسا وطلبا القهوة والشاي. قال يسوع لهما:
ـ هلما ورائي ننادى بمملكة الله!
قال أندراوس
ـ ننادي بمملكة الله!  ماذا تقصد؟
ـ  أقصد أن تتركا صيد السمك وتتفرغا معي للدعوة.
ـ أنا موافق! قال سمعان بطرس بحسم. أنا أفكر في هذا منذ أن تقابلنا في بيت عنيا وبصراحة منذ أن عمّدني يوحنا وأنا أشعر بشيء غريب. بالرغم من أنني أصطاد السمك مع أبي منذ الطفولة، إلا أنني منذ وقت المعمودية وأنا أشعر كلما خرجت للصيد أنني أضيع وقتي فيما هو ليس عملي الحقيقي. ما تقوله الآن يا يسوع هو كلمة الله التي كنت أنتظرها.
ـ هي بالفعل كلمة الله يا بطرس!
ـ وأنا أيضاً معكما!
بعد دقائق قليل اقترب منهما شابان يافعان فحياهما سمعان وأندراوس
ـ أيها المعلم، هذا يوحنا ابن المعلم زبدي صاحب أسطول الصيد الشهير في الجليل، وهذا أخوه يعقوب، وهم شركاؤنا.
ـ أعرفهما. أهلا أيها الاخوة أنتما أيضاً ستتركان الصيد وتصبحان تلاميذي!
فتح سمعان وأندراوس فاهما حين سمعا ما قاله يسوع بهذه الطريقة المباشرة،  بل وازدادت دهشتهما  عندما فوجئا بالصياديين الثريين يوحنا ويعقوب وهما يقبلان دعوته!  وهكذا أصبح ليسوع ستة تلاميذ، الأخوان بطرس وأندراوس وفيلبس ونثنائيل وابني زبدي يوحنا ويعقوب.















4
بدأ الربيع يبعث الدفء في أنحاء الجليل بعد شتاء قاسي. بدأت أغصان الأشجار الجافة العارية تخرج براعم غضة زاهية الخضار تداعبها ريح الفجر الربيعي فتتأرجح كأطفال فطيمة تبدأ في تعلم المشي في خطوات متأرجحة سريعة ثم لا تلبث أن تتعثر وتسقط لكن إرادة الحياة تدفعها من الداخل لمواصلة المحاولة.   خرجت العصافير من أعشاشها مع الصباح الباكر تحتفل بالدفء والنماء. وأصواتها التي تشبه مجموعة صفافير  في أوركسترا هائلة بلا قائد،  ترصع سماء الفجر الجليلي الطازج. الأسبوع الأول من شهر إبريل (نيسان). الفصح يقترب. وهو الفصح الأول ليسوع بعد تركه مهنة النجارة وانخراطه في الخدمة الروحية المتفرغة هو وتلاميذه.
 كان يسوع معتاداً أن ينزل مع أمه مريم ويوسف واخوته للعيد كل سنة، و ذات مرة عندما كان في الثانية عشر لم يعد معهما للجليل ومكث في أورشليم. أما أبواه فلم يعرفا وظنا أنه معهما في القافلة العائدة للجليل يلهو مع الأطفال. وبعد مسيرة يوم كامل شعرا ببعض القلق.
ـ يوسف. أين يسوع؟ غريب أنه لم يأت ليبيت معنا في الخيمة
ـ لا تقلقي يا مريم، لعله بات مع سمعان والصبية الآخرين يلهون.  أنت تعلمين لقد صار الآن مراهقاً. يجب أن نعطيه مساحة من الحرية.
ـ أنا قلقة يا يوسف. أنت تعرف. ليس هذا طبع يسوع. سأذهب لأفتش عنه
ـ سآت معك
ولما لم يجدا يسوع في القافلة مطلقاً، قررا العودة إلى أورشليم ومعهما بعض الرجال للبحث عن يسوع في أورشليم وظلا يبحثان في كل مكان وعندما غابت شمس اليوم الأول ولم يجداه استجرا غرفة في خان صغير لقضاء الليل وفي الصباح يواصلا البحث عن يسوع و لم يستطع أي منهما أن ينام هذه الليلة...

ـ ما لك يا مريم. هل تبكين؟
ـ ألعل هذا هو السيف الذي قال سمعان الشيخ أنه سيجوز في نفسي؟! ثم كيف يختفي يسوع هكذا؟ وأين الوعود التي صاحبت ميلاده؟ ألعلها كانت تهيؤات. ألعلها أمانينا نحن بالخلاص!
ـ اهدئي يا مريم.. سوف نجده.
ـ أين نجده لقد فتشنا أورشليم كلها.  لماذا يعطيني الله ابناً بدون رجل، ثم يأخذه هكذا قبل أن يصير رجلاً؟
ـ نامي الآن وفي الصباح نجده بإذن الله.

أشرقت الشمس على أورشليم وهي تسيل بقوافل الحجيج النازلة من الهيكل المرتفع مغادرة المدينة المقدسة في جميع اتجاهات فلسطين ومنها من كان مقصده إلى أبعد كثيراً.  يتنفس سكان أورشليم الصعداء بعد الزحام الرهيب الذي يعانون منه طوال الأسبوعين الأولين من شهر أبريل من كل سنة.

ـ لم يبق إلا الهيكل. هيا نذهب يا يوسف
ـ من غير المعقول أن يكون يسوع في الهيكل. أنت تعرفين أن الكهنة لا يسمحون لأحد بالبقاء في الهيكل بعد انتهاء مناسك الحج، فكم بالحري الأطفال.
ـ لا أعلم. قلبي يقول لي أنه في الهيكل.
ـ لنذهب على أي حال
دخل يوسف ومريم إلى الهيكل حيث كان اللاويون خدام الهيكل يقومون بنشاط بتنظيف الساحة الخارجية من دماء وبقايا الأضحيات قبل أن تتعفن. وحول أحد الأعمدة كانت مجموعة من الكهنة مجتمعة وكان يبدو عليهم الاهتمام كما لو كانت بينهم مناقشة حامية.
ـ مولانا. أليست  الوصية الأولى في التوارة هي «اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ» كيف يقول داود في المزمور المائة والعاشر: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: «اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ»؟ من هو "الرب" ومن هو ذاك الذي يدعوه داود "ربي"؟!
صمت الكهنة أمام سؤال كهذا يسأله صبي عمره لم يتجاوز الثانية عشر...
ـ لا تسأل عن هذه الأشياء يا فتى. أنت أصغر من أن نشرح لك هذه الأشياء. ثم.. ثم.. ثم لا تسأل عن أشياء من الممكن أن تزعزع إيمانك. اعرف شيئاً واحداً أن الله واحد واحفظ الوصايا.  هيا. انصرف الآن.
ـ أعلم أن الله واحد. لكن..  آسف إن كنت قد أزعجتك يا مولاي.
خرج يسوع من وسط جماعة الكهنة فأبصره أبواه فجريا واندفعا نحوه واحتضناه وبكيا.
ـ يا بنيّ. لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوذا أبوك وأنا كنا نبحث عنك معذبين!
ـ لماذا كنتما تبحثان عني؟ ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في بيت أبي؟
ـ ما هذا الذي تقوله؟ بيت أبيك في الناصرة. هل اشترى أبوك بيتاً في أورشليم؟! هل ستعود للكلام الذي لا نفهمه!
ـ أنا آسف يا أمي. سامحني يا أبي. لقد كنت أصلي ونسيت نفسي. إنني في الهيكل أشعر بشيء غريب.  أشعر أن هذا مكاني وبيتي ولا أشعر أنني أحتاج لأن أذهب لأي مكان آخر. سامحاني
ـ  وهل لم تخف لأنك لم تجدنا
ـ أنا آسف. لم أخف!
مضى يوسف ومريم مع الرجال الذين أتوا معهم وكان يسوع يمشي وحده وراءهما وذهنه شارد في أشياء يفكر فيها ولم يقلها لأحد.
ـ هل تعلمين؟ مرات أشعر أن هذا الولد ليس منا. إنه ليس مثلنا. وكأنه ابناً لشخص ليس من جنسنا!
ـ هل ستعود للشك يا يوسف؟
ـ لا يا مريم. أنا أصدقك. لقد ظهر لي ملاك الرب في رؤيا وقال لي عن حملك أنه من الله. لكنني لا زلت لا أفهم لماذا؟ لماذا يفعل الله هذا؟ هذا لم يحدث من قبل؟  وفي بعض الأحيان أحتار. أنا واثق في شرفك، لكن في بعض الأحيان أحتار، فأقرر أن أنسى الأمر وأتجاهله.
ـ حتى أنا،  أحياناً أشك. لقد قال لي ذلك الرجل الذي كان يشبه الملاك أنه سيدعى "ابن العليّ" لكني لا أعلم كيف يكون إنسان ابناً لله!  لقد ظننت فقط أنه سوف يكون مباركاً وتقياً. لكن يسوع ليس مجرد صبي متدين. بل به شيء غريب!  في بعض المرات، حتى أنا،  أشعر أنه ليس ابني. صحيح أنه يخضع لي ويطيعني. لكنني في مرات كثيرة أشعر كما لو كان هو الكبير وأنا الصغيرة!
يضحك يوسف ثم تخفت ضحكته وتتحول ملامحه للجد.
ـ تصوري. أنا أيضاً أشعر بذلك أحياناً!

إنه الآن أول عيد فصح بعد تمام يسوع الثلاثين وتفرغه للخدمة وانتقاله لكفر ناحوم. وهاهو يسوع ينزل إلى أورشليم للمرة الأولى بعد أن صار رسمياً رجل دين وانضم إلى طائفة الكتبة وهي طائفة معلمي الناموس والأنبياء.
ترى ماذا سيحدث في أول زيارة ليسوع وتلاميذه لأورشليم. هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة من "مملكة الله"












ليست هناك تعليقات:

 
google-site-verification: google582808c9311acaa3.html