السبت، ٢٩ مايو ٢٠١٠

! أنا هو الباب


19
منذ أن تركته راعوث غاضبة وتوما يعاني من اكتئاب شديد يجعله يعود من معصرته بعد الغروب كل يوم ويغلق بابه على نفسه ويخلو ساعات إلى رقائقه ومخطوطاته أمام المدفأة. ثم يقوم ليصلي داعياً الله أن يلهمه الحقيقة، ثم يعود مرة أخرى إلى مخطوطاته وهكذا كان يقضي كل ليلة.

توما..
جاءت راعوث من بعيد مرتدية ثوباً وردياً شفافاً يكشف تفاصيل جسمها الأنثوي الرشيق مستعيناً بضوء المدفأة الشاعري المنبعث من خلفها...
توما.. قُم لقد نام طفلانا.. دع هذه الرقوق.. لقد افتقدت دفء جسدك.. تعالى نرقد هنا أمام المدفأة..

... شافِك دورايتا ليخومرا (الشك في التوراة يجب أن يُعامَل بشدة!)
... شافِك دورايتا ليخومرا (الشك في التوراة يجب أن يُعامَل بشدة!)
...... أنا هو الطريق والحق والحياة!
.... أنا هو الباب! من آمن بي فيدخل ويخرج ويجد مرعى!
يخرج ويدخل والباب لا يزال مفتوحاً ؟!
... شافِك دورايتا ليخومرا (الشك في التوراة يجب أن يُعامَل بشدة!)
... شافِك دورايتا ليخومرا (الشك في التوراة يجب أن يُعامَل بشدة!)
ـ يشك ويؤمن والباب يظل مفتوحاً؟!
ـ يدخل ويخرج ويجد مرعى؟!
....أغلقت راعوث الباب وراءها بشدة وهي تبكي

ـ البلهاء فقط هم الذين يصدقون يا توما!
ـ ولكني أريد أن أصدِّق يا أبي!
ـ لا تلسعيني يا أمي. الملعقة ساخنة جداً!! لا !!! لا!!!
شعر توما بحرارة شديدة تلهب قدمه، استيقظ فجأة فأدرك أن نار المدفأة شبت في إحدى الرقائق ثم انتقلت النار من الرقيقة إلى طرف ثوبه ولم ينتبه لكونه قد استغرق في النوم والأحلام. بعد أن أطفأ توما الحريق الصغير الذي شب بغرفة معيشته، آوى إلى فراشه لينام.

اختلط صوت العصافير المستيقظة باكراً بصوت الصراخ النشاذ المنبعث من طابور صباح المدرسة الابتدائية المجاورة يصاحبه صوت "أوكورديون" متواضع، مع دقات معدنية الرنين من آلة الزيلوفون المصنعة محلياً و يرسل كل هذه الأصوات إلى أذنيّ توما مكبر صوتي متهالك كثير الطنين.
وبينما كان توما بين اليقظة والمنام كانت عبارات لا تزال تتردد داخله...
... شافِك دورايتا ليخومرا... شافِك دورايتا ليخومرا.. (الشك في التوراة يجب أن يُعامَل بشدة!)
.... أنا هو الباب!
.....يخرج ويدخل والباب لا يزال مفتوحاً ؟!
... يشك ويؤمن والباب يظل مفتوحاً؟!

استقيظ توما وأدرك أنه تأخر في النوم ثم أخذ يتشمم رائحة الدخان النفاذة المنتشرة في كل بيته فتذكر حريق الأمس. قام متثاقلاً يبحث عن خفه تحت السرير. حاول أن يحفظ توازنه فلم يستطع إلا بعد أن مال بجسده ليستند إلى السرير. أغراه ملمس السرير الناعم الدافئ أن يعاود النوم في هذا الصباح القارص البرودة، ولكنه تذكر أن اليوم هو الجمعة وسوف يكون لديه عمل كثير في المعصرة قبل أن تميل الشمس إلى المغيب ويبدأ السبت. كانت هذه الفكرة كفيلة بأن توقظه تماماً وتعيد له اتزانه كاملاً.
قام توما إلى حوضه المتواضع ليغتسل. الماء البارد يرسل في جسده قشعريرة مؤلمة، ولكنها مفيدة لإيقاظه. ارتدى ملابسه التي لم تكن نظيفة تماماً فهو لا يعتني بهذه الأمور كثيراً بالإضافة إلى أنه يعيش مع أبيه المسن ولا يوجد من يعتني بهما ويهتم بأمور حياتهما من طعام وشاب وغسيل. كان توما يخصص يوماً كل أسبوعين أو ربما أكثر ينصرف فيه إلى الاهتمام بشئون البيت فيغسل ملابسه وملابس أبيه ويطهو لهما وجبة ساخنة بدلاً من أكل السوق البارد من خبز وجبن يتناولانه معاً في المعصرة أو يتناوله كل منهما منفرداً عندما لا يقوى أبوه على النزول إلى المعصرة.

بدأ العمل في المعصرة مبكراً، كما هو الحال كل يوم جمعة. وعندما وصل توما وجد النسوة وقد اصطففن طابوراً طويلاً وكتبن أسمائهن في ورقة لمراعاة الدور. كانت كل منهن تحمل جرة بها بعض الزيتون وأكياس صغيرة من البهارت والأعشاب التي يأتين بها من عند العطارين ويردن إضافتها إلى الزيت. بعضها للعلاج من الأمراض المزمنة المتوطنة في كفر ناحوم والبعض الآخر لزيادة القدرة الجنسية لأزواجهن. في واقع الأمر، بالرغم من كونهن يحببن الجنس جداً إلا أنهن يحببن الاهتمام الذي يجدنه من أزواجهن أكثر من الجنس، وإذا كان الجنس هو الوسيلة التي تجعل الأزواج يلهثون خلفهن ويطلبن رضاهن فمن الضروري الحفاظ على هذه الممارسة ناجحة وجالبة للذة لهن ولأزواجهن.
لم يتح العمل الطويل لتوما الفرصة للتأمل والتفكير في أحلام الليلة الماضية حتى أنه كاد ينسى العبارت التي ترددت في رأسه عندما استيقظ.

عندما جاءت صلاة العصر (صلاة الساعة التاسعة)، كانت المعصرة قد خلت تقريباً من الزبائن اللاتي كان عليهن أن يعدن إلى بيوتهن قبل الغروب للإعداد للسبت. كان نساء اليهود يهرعن إلى بيوتهن لإعداد الطعام والتجهيز لكل شيء قبل حلول السبت، فويل لمن يفعل شيئاً في السبت. كانت النسوة يطهون والخوف يملك قلوبهن فإما الجوع طوال ليلة الجمعة وكل نهار السبت وإما الموت لمن يكسر السبت.
هم توما بالإعداد لإغلاق المعصرة قبل حلول الغروب عندما كان يخفض باب الدكان الحصيري الملفوف ليصل به إلى المنتصف، معلنا للزبائن أنه توقف عن قبول زبائن جدد، بادرته العبارة التي كانت تتردد في عقله بين النوم واليقظة.
.. أنا هو الباب من آمن بي فيدخل ويخرج ويجد مرعى!

لم يكن توما متحمساً لإغلاق معصرته قبل الغروب بالرغم من أنه كان يلاحظ الهلع الأسبوعي الذي ينتاب كل السوق حيث يهم كل التجار بإغلاق محالهم وهم فزغين في صورة ملتاعة لا يدانيها إلى صورة الباعة الجائلين الذين يفترشون الطرقات عندما تأتي سيارة المحافظة، مع أنهم تجار محترمون يمتلكون محالهم أو يستأجرونها بعقود رسمية. لكنه السبت!

.. أنا هو الباب من آمن بي فيدخل ويخرج ويجد مرعى!

من الذي قال هذه العبارة ياترى؟ كيف جاءت إلى عقلي؟ ثم فجأة تذكر من أين جائت هذه العبارة، لقد سمعها من يعقوب بن حلفي. هي من عبارات يسوع الناصري. ترى ما الذي كان يقصده؟

رفع توما رأسه بعد أن قام بجمع جوالات الزيتون الفارغة وكنس أرضية المعصرة، ليجد رجلاً ذو هيئة مهيبة أمامه.
ـ آسف لن أستطيع أن أخدمك الآن فقد اقترب السبت وعليّ أن أغلق المعصرة الآن.
ـ وهل ترى معي زيتوناً؟
ـ آه. نعم. آسف! كيف يمكن أن أساعدك يا سيدي؟
ـ اتبعني!
خفق قلب توما. كان بداخله تساؤل، يتبعه إلى أين؟ لكنه لم يقو أن يسأله. مرت لحظات ثم سأل توما...
ـ ومن أنت؟
ـ أنا يسوع الناصري. أنا الباب! من يدخل مني يدخل ويخرج ويجد مرعى.
تذكر توما العبارة فخفق قلبه أكثر. ترى هل يقرأ هذا الرجل أفكاري؟ ثم تمالك نفسه وقال...

ـ ولماذا أنا بالذات؟ ربما أنا آخر من يمكن أن يتبعك. أنا أشك في صدقك! سامحني! أنا أشك في كل شيء! أنا أشك في نفسي!
ـ لكنك تبحث عن الحقيقة يا توما وهذا أنا أحترمه! وإن كنت تريد أن تتبع الحق، فاتبعني.
ـ ولكني لا أؤمن حتى أرى!
ـ سوف ترى الكثير وتؤمن!
اغرورقت عينا توما بالدموع. وهو يقول
ـ أريد أن أتبعك، لكن ائذن لي أولاً أن أدفن أبي فهو مسن ووحيد ويحتاجني
ـ اتبعني أنت ودع الموتى يدفنون موتاهم!
خلال أيام قليلة كان توما قد باع المعصرة إلى صديقه يوسي بن حلفي وأودع المال عند أحد الصرافين وكان يأخذ ربحه كل بضعة شهور ويبعث به إلى يوسي الذي عهد إليه برعاية أبيه وانصرف هو يتبع يسوع في كل مكان. أما راعوث فقرر أن يؤجل قرار الزواج بها إلى أجل غير مسمى.

باختياره لتوما أكمل يسوع اختيار أثنا عشر من تلاميذه أسماهم رسلاً وكان الرقم مقابلاً لأسباط إسرائيل الإثني عشر. أما التلاميذ الأثنا عشر فهم سمعان الذي سماه بطرس وأندراوس أخاه ويعقوب ويوحنا ابنيّ زبدي ونثنائيل وفيلبس ويعقوب ويهوذا ابني حلفي وسمعان القانوي (الغيور) ويهوذا الاسخريوطي وأخيراً توما ولاوي بن حلفي (الذي اسمه أيضاً متى).

كيف سوف تتغير حياة هؤلاء الإثنى عشر و كيف سيغيرون خريطة العالم بدون مال أو سيوف؟ هذا ما سنعرفه لاحقاً في الحلقات القادمة من "مملكة الله".


هناك ٣ تعليقات:

Ramy يقول...

د/أوسم

جميلة جدا طريقة السرد

انا يمكن دخلت من الباب لكن مش عارف اكمل

مش عارف

ارجوك انا محتاج اتكلم معاك لوينفع

فى كيلا الحالتين رفض او ايجاب

انا بشكرك ومش زعلان

my e-mail

fwzysamy@yahoo.com
fwzysamy@hotmail.com

بس ارجوك لو ينفع متتأخرش عليا ارجوك

شكرا

غير معرف يقول...

well-written; vivid imagination; thoughts clear; challenges of life exposed; hesitation and doubts, skepticism visited. My question is it a true story or an allegory? thank you

غير معرف يقول...

The description of Thomas struggle with all the thoughts is brilliant specially when Martha came to talk with him at his work ... ....but the greatest is Jesus'words to Thomas ... very precise, understanding and touching the heart ...
enjoyed reading
thanks
n.s.

 
google-site-verification: google582808c9311acaa3.html