السبت، ٢٧ مارس ٢٠١٠

فجر جديد



14
في إحدى الفنادق الفخمة بالعاصمة أورشليم، أقيم اللقاء السنوي لجمعية جباة الضرائب والمحاسبين والمراجعين القانونيين اليهود، وجاء إليها جباة الضرائب من كل أنحاء المملكة. وجباة الضرائب كان يسميهم الشعب العشارون بسبب أنهم قد اتفقوا مع الحكومة على أخذ العُشر مما يجمعون أيما كان. ولذلك كانوا يبالغون في قيمة الضرائب ويجمعون ضرائب أكثر من المبلغ القانوني وكانت الحكومة تغض البصر وكان الجميع يستفيد، فيما عد الشعب الكادح بالطبع.  وللحصول على هذه المبالغ أعطت الحكومة سلطات واسعة لهؤلاء العشارين أن يصدروا قرارات بالمصادرة والحبس إذا لم يستجب دافعو الضرائب.
ـ زكا بن عميهود!     أنت كما أنت لم تتغير منذ كتاب المجمع في الجليل أهلا بك أيها القصير المكير!
ـ وأنت أيضاً يا لاوي بن حلفي لقد أسماك أبوك لاوي وأنت أبعد ما تكون عن خدمة الهيكل.  لقد فضلت بدلاً منها خدمة النظام أيها الفاسق !  قال زكا ضاحكاً وهو يحتضن لاوي، وضحكا الاثنان بصوت عال.
ـ أين انت الآن يا زكا؟
ـ أنا رئيس عشاري أريحا
ـ منصب مهيب. لكنك تستحقه يا زكا، فأنا لم أرى من هو مثلك في دقته والتزامه في العمل.
ـ لكن الحقيقة أنني مؤخراً أصبحت غير مقبل على أي شيء في الحياة. لعلها أزمة منتصف العمر كما يقولون!
ـ كيف يا زكا؟
ـ لدى زهد غريب في المال والجاه، وأتساءل في نفسي إن كان هناك معنى للحياة أعمق من هذا. لقد حققت كل شيء في الحياة المال والنجاح والجاه والاحترام من الناس. لكنني لست سعيداً.
ـ معك حق يا زكا. هذا تماماً ما أشعر به هذه الأيام.
ـ أسمعت ما يقوله يسوع الناصري عن المال؟
ـ لا يا زكا لم أسمع ماذا يقول؟
ـ يقول: "لا يقدر أحد أن يخدم سيدين، فإما أن يخدم الإنسان الله أو يخدم المال"
ـ لقد حاولت لسنين عديدة أن أجمع بين الله والمال،  لكنني لم أستطع لقد انتصر المال في النهاية واصبحت أحسب كل شيء من منظور المكسب والخسارة وما هو الاستثمار الأفضل، في البورصة أم في العقارات أم في شراء الذهب والمجوهرات. ومنذ بدأت المضاربة في البورصة، أصبح لي هم واحد في الحياة هو متابعة ارتفاع وانخفاض الأسهم والسندات حتى أصبحت حتى أنني أدمنت هذا الأمر  وصرت عبداً له.
ـ وعندما تضاف السلطة إلى المال يصبح الإدمان أشد وأقوى. على أي حال يا لاوي يا صديقي عندما أفكر بهذه الطريقة أصل إلى طريق مسدود. أنا أيضاً كما تعرف كنت أبحث عن الله في شبابي لكنني سئمت من المجامع وأهل المجامع وكرهت نفاق الدين  و التدين الذي أراه في كل مكان. إن كان الله هكذا فأنا لا أريده!
ـ نعم فلا نرى من هؤلاء المتدينين إلا التعصب والكراهية. دعني أقص عليك ما حدث لي منذ أسبوعين. شعرت ببعض الحنين لسماع التوارة فذهبت إلى المجمع باكرا جدا وجلست في أحد الأركان لئلا يراني أحد. كنت متشوقاً أن أسمع التلاوة. وما أن هم الشيخ بأن يبدأ بالتلاوة حتى رآني فتوقف ونزل من على المنبر وجاء إلي وقال لي: " أنت غير مرغوب فيك هنا!" أنت تفسد على الناس صلاتها وتنجس المكان! ألست لاوي بن حلفي العشّار؟  قلت له: بلى أنا هو!  فقال: اخرج في صمت لئلا أخرجك بالقوة ويصير منظرك سيئاً أمام الجميع! لك أن تتخيل كيف كان شعوري وأنا ألملم أشلاء كرامتي المبعثرة وأخرج من المجمع.
ـ تباً لهؤلاء المعلمين!  أنت يا لاوي لا يزال لديك حنين للمجامع ولسماع تلاوة التوراة أما أنا فقد انتهيت من هذا الأمر. لقد كرهت التوراة وكرهت الدين. إنني أرى أن الرومان أكثر احتراماً من أهلنا المنافقين، على الأقل هم لا يدّعون التدين ويمارسون كل ألوان الرذيلة في الخفاء.

بدأت أولى جلسات المؤتمر وكان المتحدث أحد رجال الحزب الحاكم وكانت عن " أساليب جديدة لتنمية موارد الدولة في عصر الرأسمالية والسوق المفتوح." جلس لاوي وزكا يستمعان للمحاضرة بأذنيهما لكن حملاً ثقيلاً كان جاثماً على قلبيهما لم يعرفا حتى اسماً له.




جلس يسوع و تلاميذه الستة، الأخوان سمعان وأندراوس والأخوان يعقوب ويوحنا ابني زبدي مع فيلبس وبرثلماوس (المدعو نثنائيل)  على المائدة الكبيرة في مطبخ بيت حماة سمعان بطرس في صباح أحد أيام شتاء كفر ناحوم البارد. اعتاد الجميع أن  يتناولوا إفطارهم معاً و هم يستعدون للانطلاق لبداية إحدى رحلاتهم إلى قرى الجليل.  كشفت النافذة الصغيرة لمطبخ حماة بطرس صراع الشمس وهي تحاول أن تثبت وجودها وتطل من خلف الغيوم الشتوية الكثيفة حتى يمكن أن يبدأ اليوم رسمياً.   كانت برودة الجو تجعل أنفاس الرجال والنساء تتحول إلى بخار يتصاعد من أفواههم ومن أكواب الشاي التي يحتسونها وهم يتبادلون أحاديث ضاحكة.  كانت زوجة سمعان بطرس وأمها بمساعدة مريم أم يسوع يأتين إليهم بأطباق الإفطار الشهية دون أن يتوقفن عن الاشتراك في الحديث وكن إذا ذهبن نحو الموقد، فقط يرفعن أصواتهن قليلاً ليتمكن الرجال الجالسون على المائدة  أن يسمعوا ما كن يقلنه  ويستمر الحديث بشكل طبيعي.

ـ يقول الناس لماذا لا يصوم تلاميذ يسوع أصواماً طويلة كما كان تلاميذ يوحنا يصومون.
ـ نعم يا خالة مريم نحن، كما تعرفين كنا من تلاميذ يوحنا وكنا نصوم أكثر مما نفطر، فبالإضافة ليومي الإثنين والخميس المعروفين في التقليد اليهودي،  كنا نصوم أصواماً طويلة تصل إلى الخمسين يوماً في بعض الأوقات وكنا خلال هذه الأيام نأكل فقط الطعام النباتي البسيط.

ـ لا أستطيع أن أنسى نظرات الدهشة وعدم الفهم على عيني يفتاح الفريسي عندما قال له يسوع أن بنو العرس لا يصومون والعريس معهم.... لكن يا معلم، ماذا كنت تقصد بهذا الكلام؟
ـ عزيزي فيلبس، ليس أحد يخيط رقعة من قماش جديد على ثوب عتيق، فعندما يغسل الثوب سوف ينكمش القماش الجديد فيخرق الثوب.
ـ ماذا تقصد؟
ـ الدين ثوب عتيق. لقد كان وسيلة للتقرب إلى الله وفهم مقاصده قديماً. من خلال الدين أدرك الإنسان ما يريده الله وما يرفضه، وما هو الخير والشر. لقد كان الدين إعلاناً إلهياً بدائياً للإنسان كما يعلم الأب طفله الصغير. أما الآن فما يفعله الله في حياة البشر هو بمثابة قطعة قماش جديدة لا يمكن أن تخاط في نفس الثوب القديم. ألم تدركوا بعد ما أقوله دائماً أنه قد اقترب ملكوت الله؟
ـ نفهم أنك تقول أن نهاية العالم قد اقتربت لذلك علينا أن نتوب.
ـ بالطبع نهاية العالم تقترب كل يوم ولكن ما أقصده ليس ذلك بالتحديد.  إن ما أقصده أن الله قد اقترب من البشر كما لم يقترب من قبل. ما يفعله الله الآن بيننا هو أعمق من أي دين. إن الله نفسه يتواصل مع البشر وجهاً لوجه، يعلن عن حبه للجميع ويشفي القلوب قبل الأجساد ويهب الرجاء للجميع دون أن يفعلوا شيئاً إلا أن يؤمنوا ويقبلوا الملكوت الآتي.  هذا "ثوب" جديد من بر الله  يخيطه الله بنفسه ليُلبِسه لكل البشر.  ليس لمن يفعل شيئاً ليستحق هذا البر، ولكن لمن يقبل ويُقبِل ويصدق.  لا ينبغي أن نضيف لهذا الثوب الجديد  رقعاً من الثوب القديم، أو نضيفه كرقع جديدة نرقع بها الثوب القديم.  لقد أدّى الدين دوره وانتهى، وأي رجوع للدين بعد حلول مملكة الله هو بمثابة عودة للصورة بعد أن جاء الأصل.
صمت يسوع قليلاً ثم أضاف....
وإنا أقول لكم: طوباكم أيها الرجال والنساء لكونكم الآن ترون ما تمنى الأنبياء والأتقياء على مر العصور أن يروه. وها أنتم ترونه بعيون رؤوسكم.
ـ أنا لا أفهم شيئاً!
ـ لن تفهم ما أقوله الآن فهماً كاملاً،  ولكنك سوف تفهم فهماً أعمق فيما بعد يا بطرس!
ـ ولكنني بالفعل أشعر بحضور الله واقترابه كما لم أشعر من قبل!
ـ قبل أن يأتي العريس إلى العُرس لا يكون هناك فرح وإنما استعداد. المصابيح تملأ بالزيت لأنها سوف تضاء طوال اليل ويعد الموسيقيون آلاتهم ويُعَد الطعام والشراب. لا أحد يأكل أو يشرب أو يفرح بعد ولكن الكل تتعلق عيونهم بالطريق منتظراً موكب العريس. أليس هذا ما يحدث في أفراحنا؟
ـ بلى!
ـ ثم عندما يأتي العريس إلى العُرس يختلف كل شيء وكان عصراً جديداً قد بدأ وانتهى القديم.  تضاء المصابيح وتفرد الولائم، ويأكل الجميع ويشربون ويفرحون. ولكني أقول لكم أن العريس سوف يمضي وقتاً مع أحباءه ثم يسافر مرة أخرى لتبدأ فترة جديدة من الاستعداد وسوف يأتي ثانية في عرس أكبر وأبهى يمتد إلى أبد الآبدين.
ـ لازلت لا أفهم ما تقول يا يسوع، لكن حياة ما تدب في داخلي عندما تتكلم.
ـ هيا بنا فقد ظهرت الشمس تماماً وأصبح الطريق آمناً.

بعد الأفطار وقف الرجال السبعة  والنساء الثلاثة  ممسكين بأيدي بعضهم البعض في دائرة بينما كانت الشمس في الأفق قد استيقظت تماماً وبدت وكأنها واقفة معهم تصلي.

ـ أبانا الذي في السموات، ليكن اسمك مقدساً متسامياً فوق كل اسم،  ليأت ملكوتك فاتحاً ذراعه للبشر ويتحقق فيهم وبهم،  لتتحقق مشيئئك الكاملة في السماء،  هنا أيضاً على الأرض، مهما حاول  فساد الأرض أن يعطلها أو يؤجلها.   نشكرك على ما أكلنا. اللهم اعطنا واعط كل إنسان خبز يومه، واغفر لنا ما نرتكبه في حق الآخرين، كما نغفر نحن أيضاً ما يرتكبه الآخرون في حقنا. لا تدعنا ندخل في تجارب ونجنا من الشر والشرير، لأن لك الملك والقوة والمجد إلى أبد الآبدين آمين.


في الحلقة القادمة من مملكة الله سوف نتابع رحلة يسوع وتلاميذه

هناك تعليقان (٢):

غير معرف يقول...

This is great ... I like very much the description of the sun trying to appear amid the clouds ...well at the end it does...
The conversation is also very spontaneous and clear in meaning ... enjoyed reading it
God Bless you
n.s.

راما يقول...

ليبارك الرب توضيحاتك للكثير من الرموز التي تحتاج إلى تقريب إلى الأذهان لكي تتضح الرسالة
توضيح الفرق بين الدين والعلاقة الحية في المسيح لهو أمر في غاية الأهمية فكمسيحيين نعتقد أحيانا أن المسيحية دين آخر
شكراً على رؤيتك الثرية والمُثرية

 
google-site-verification: google582808c9311acaa3.html